لم يعد مسار الصراع بين الرئيس الأمريكى المنتهية ولايته دونالد ترامب وإدارته وبين إيران يحسب بالأيام، بل أضحى يحسب بالساعات فى ظل الضبابية التى أخذت تسيطر على أجواء انتقال السلطة إلى الرئيس المنتخب جو بايدن المقرر يوم 20 يناير المقبل أى بعد 35 يوماً فقط من الآن. فعملية اغتيال العالم النووى الإيرانى محسن فخرى زاده (الجمعة 27 نوفمبر الفائت) كان يمكن اعتبارها محاولة لاصطياد إيران لشن هجوم كاسح أمريكى- إسرائيلى ضدها لتدمير منشآتها النووية، وهو الحلم الذى ما فتئ يسيطر على خيال رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، وبالتبعية يفرض هذا الحلم نفسه كأولوية للرئيس الأمريكى دونالد ترامب، الذى بدأ يخطط من الآن لكسب معركة الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2024 إن لم يكن متاحاً له العودة مجدداً إلى البيت الأبيض فى العشرين من يناير المقبل بدلاً من جو بايدن.
ضرب إيران وتدمير منشآتها النووية كان يمكن أن يوظف انتصاراً يأمله الرئيس ترامب ليخوض به الانتخابات الجديدة من ناحية وليحدث إرباكاً فى أجندة الرئيس المنتخب جو بايدن فى العلاقة المستقبلية مع إيران وخاصة منعه من تحقيق عودة أمريكية إلى الاتفاق النووى الإيرانى، وكان يمكن أن يوظف أيضاً لإنقاذ بنيامين نتنياهو من أزمته الحكومية المستعصية ومن مصير مؤلم ينتظره إذا بدأت محاكمته الجنائية. كان التوقع الأمريكى- الإسرائيلى بعد عملية اغتيال العالم النووى الإيرانى أن تعجل إيران بالانتقام وأن تفقد بوصلة الحسابات وأن تقع فى “الفخ المنصوب” الذى يدفعها إلى القيام برد انتقامى يمكن اتخاذه كذريعة لشن الهجوم المأمول ضدها، أو لتأليب الرأى العام الداخلى الأمريكى ضد أى تقارب أمريكى جديد مع إيران.
الانضباط الذى أظهرته إيران وعدم انجرارها للاستفزاز، وقبضها بكلتا يديها على الجمر لم يرق على ما يبدو لا للإدارة الأمريكية ولا لحلفائها الإقليميين وفى مقدمتهم بالطبع كيان الاحتلال الإسرائيلى، ومن هنا جاء الاستعراض العسكرى شديد الاستفزاز الذى قام به الأمريكيون يوم الخميس الفائت (10/12/2020) عندما أعلن عن إقلاع طائرتين أمريكيتين إستراتيجيتين من طراز B52 من قاعدتهما بولاية لويزيانا يوم الأربعاء (9/12/2020)، وعبرتا المحيط الأطلسى وأوروبا ومنها إلى شبه الجزيرة العربية والخليج حيث رافقتها مقاتلات القوات الجوية السعودية، وقامت باستعراض قرب قطر والسواحل الإيرانية، لكن “مع المحافظة على مسافة آمنة من سواحل إيران” حسب المصادر العسكرية الأمريكية التى لم تتردد عن القول أن الطائرتين تحملان قنابل نووية، وبعدها عادت الطائرتان إلى قاعدتهما فى لويزيانا فى رحلة استمرت 36 ساعة متصلة.
تحليلات المراقبين اعتبرت تحليق هاتين الطائرتين، وبرفقة طائرات سعودية هذه المرة، يرمى إلى هدفين أولهما تكثيف الاستفزاز للإيرانيين المنقسمين فى رأس السلطة بين التريث الذى تبديه الحكومة ورئيس الجمهورية حسن روحانى وبين الاستنفار الذى يتفاقم لدى المتشددين فى الحرس الثورى والبرلمان، بهدف إجبار إيران، على التسريع بتنفيذ الانتقام للعالم الذى جرى اغتياله، باعتبار أن هذا الانتقام سيخلق المبررات الأمريكية والإسرائيلية الكفيلة بشن الهجوم المأمول (ضد إيران) أما الهدف الثانى فهو ردع إيران عن أى رد ضد الولايات المتحدة أو إسرائيل فى هذه الظروف الأمريكية والإسرائيلية شديدة الحرج، وبالتحديد ظروف الارتباك الأمريكى المصاحب لـ “معركة انتقال السلطة” وظروف الأزمة الحكومية الداخلية الإسرائيلية واحتمال بات شبه مؤكد بحل الكنيست (البرلمان) والبدء بخوض معركة انتخابية جديدة قد يكون نتنياهو أبرز الخاسرين فيها، فى ظل تكتل معارض يزداد حجمه محوره الأساسى هو “عدم تمكين نتنياهو مجدداً من رئاسة الحكومة”، عندها تكون محاكمته شبه مؤكدة.
الجنرال فرانك ماكنزى قائد القيادة المركزية الأمريكية، وهو بالمناسبة القائد الأعلى للقوات الأمريكية فى الشرق الأوسط صرح بأن المهمة التى تم تنفيذها (تحليق طائرتى B52 قرب السواحل الإيرانية) صممت لتأكيد التزام الجيش الأمريكى إزاء شركائه الإقليميين، وللتحقق من قدرة الولايات المتحدة على نشر قوات قتالية بسرعة فى أى مكان فى العالم. إضافة إلى ردع إيران أو أى من حلفائها الإقليميين خاصة فى العراق من أى اعتداء محتمل ضد المصالح الأمريكية.
لم تمض أكثر من 24 ساعة فقط على ذلك الاستفزاز الأمريكى الخطير لإيران حتى جاءت الصدمة التى حتماً ستقلب أولويات الرئيس الأمريكى المنتهية ولايته دونالد ترامب. ففى يوم الجمعة الفائت (11/12/2020) أصدرت المحكمة الاتحادية العليا حكماً كان له وقع الصاعقة على الرئيس ترامب ومؤيديه داخل الحزب الجمهورى. فقد رفضت المحكمة “القضية الكبرى” التى كانت رفعتها ولاية تكساس (ولاية موالية للحزب الجمهورى تاريخياً) بدعم من شريحة واسعة من الحزب الجمهورى لإبطال ملايين الأصوات فى الولايات الأمريكية الأربع المتأرجحة (ويسكونسن وميتشجن وجورجيا وبنسيلفانيا)، بغرض إفقاد بايدن الأغلبية التى حصل عليها بأصوات هذه الولايات ومن ثم إعلان فوز ترامب كمنتصر بديل.
حكم المحكمة العليا بنى على أساس أن ولاية تكساس “تفتقر إلى الحق القانونى للتقاضى حيال كيفية إجراء الولايات الأخرى انتخاباتها”، ونص الحكم على أن تكساس “لم تظهر مصلحة معترفاً بها قضائياً فى الكيفية التى تجرى بها ولاية أخرى انتخاباتها”.
صدمة ترامب كانت هائلة، وعبر عن “خيبة أمله” بعد صدور الحكم، ولجأ إلى “تويتر” ليصب جام غضبه وسخطه، وكتب “المحكمة العليا تخذلنا.. لا حكمة ولا شجاعة” وقال فى تغريدة أخرى “القتال بدء للتو”، وقال لاحقاً “انتخابات مزورة.. سنواصل المعركة” وبعدها اندلعت التظاهرات المؤيدة له بالآلاف يوم السبت الماضى بالقرب من البيت الأبيض واصطدمت بمظاهرات أخرى من الرافضين لبقائه فى السلطة، وبدأ مسلسل تساقط الضحايا فى مؤشر يقول أن هذه بداية “للاضطراب” وربما “للفوضى” التى توقع الكثيرون أن تكون نتيجة حتمية للصراع والانقسام العنيف الذى يتهدد المجتمع الأمريكى كله وليس فقط النظام السياسى، وربما يؤدى إلى “تفكك الولايات المتحدة”.
هذا المآل المشؤوم جاء على لسان “الين ويست” رئيس الحزب الجمهورى فى ولاية تكساس المنحازة إلى ترامب بقوله أن قرار المحكمة العليا “ربما يؤدى إلى تفكك الولايات المتحدة”. وأضاف أن “هذا القرار ستكون له تداعيات بعيدة المنال.. ربما يتعين على الولايات التى تحترم القانون (يقصد الولايات المؤيدة لترامب) أن تترابط معاً وتشكل اتحاداً من الولايات التى تحترم الدستور”. تطورات تؤكد أن الصراع ضد إيران بدأ يتحول إلى صراع أمريكى داخلى بين الولايات الأمريكية. صراع لا يعرف أحد مداه ولا أين سينتهى ، لكنه يكشف عن حقيقة مهمة وهى أن ما كان يتردد عن أفول أمريكى كمجرد فرضية خلال العقود القليلة الماضية أخذ يتحول إلى حقيقة، وعندما يحدث ذلك فحتماً ستكون التداعيات بل والحقائق صاخبة فى الشرق الأوسط .
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الاهرام 2020 / 15/12