هذه كلمات العاجز عن وصف ما يعتريه.
ما بيني وبين والحروف علاقة طيبة تؤنسني، فهي تمتد لأربعة عقود ماضية، تأخذ ما يوجعني وترتبه على الاسطر بشكل لطيف ومعاني انيقة، وانا وفيٌّ لها بقدر صدقها وصداقتها مع الافكار التي تختلج في أعماق روحي، تتهجد بتراتيل ناسك حينا واخرى تتغنى للجمال بحس شاعر وتارة تحطم الاغلال وتكسّر القيود بنبض ثائر واخرى تذرف الدمع اذا انطفأت شمعة، وساعة حنين تتداخل كل المعاني في اضطراب؛ لتولد من وجع الفراق ألف معنى تتمناه وتتسع فيه العين والروح والانفاس للقاء مستحيل للحظة واحدة فقط ولا يتحقق فتمضي الأيام والاحداث محاولا وصف الغليان الذي داهمني فجأة فتتمنع الحروف وتغور لعجزها عن وصف الدمار الذي بداخلي وتتركني أختنق بنَفَسٍ عميق يملئ حويصلاتي ويتركها متخمة بالوجع.
من اين ابدا وعن أي المشاعر اتحدث؟، هل سأعزف لحنا مضطرباً، ام لحن غيمة واسراب نوارس تغازل السفن على الأرصفة ساعة غروب الشمس، هل سأطلق الكلمات كريح تضرب أبواباً مؤصدة، ام كنسمات تدغدغ الروح فتنعشها بصيف ليل بصري، هل سأجلس لأشرب فنجان قهوة وأطلق احاديثاً بمختلف الأصعدة ام اشرب فنجان حزن وأشعل سجارتي وجماً فتشربني واشعر ببقاياها تحاصر حويصلاتي بقسوة ومرارة التبغ كالعلقم في فمي.
من اين يهاجمني الشعور بالمرارة وانا في اول اشراقة الصبح، من اين هذا الكم الهائل من الحزن يسيطر على روحي، وقبل قليل بدأت التهجد بأوراد الصباح التي تطلق انفاسي لفضاءات رحبة بالطاقة الإيجابية، اليس اليوم ككل يوم، ماذا دهاني كي لا اشعر بالألق والانطلاق، مالي اشعر بالثقل.
أهذا أنت؟!! أحقاً هذا انت سيدي مسجى قدامي!! احقا احملك في تابوت على كتفي مع الاخرين الذين احبوك واحببتهم واعطيتهم كل عمرك، أحقاً نودعك الى عالم البرزخ؟! وانا الان ارثيك بكلمات معدودات، أتعطيك حقك هذه المفردات وتأبّنك، أتحتوي الكلمات عطائك الذي امتدّ لأكثر من ثمانية عقود بكل تفاصيلها، أتستطيع هذه الاحرف ان تقترب ولو قليلا من الدور الذي مارسته عبر السنين او ما تحملته من وجع ابان حكم النظام السابق وانت تحمل مسؤولية أبناءك في البصرة في زمن كان الموت فيه أسرع من مرور رصاصة الى القلب، أتستطيع جدران جامعك ان تخبرنا عن عطاءٍ لآلاف البصريين، عطاء تنوعت اشكاله والوانه.
عام مضى وهذه مكتبتك وقلمك واوراقك تسأل عن سبب لغيابك، فما تعودت منك هذا الهجران، كم تشكو شوقاً لدفيء أنفاسك، وهي تفيض عطرا فتملأ المساحة بين الرفوف المتوالية وتمنحها الحياة، او لأنامك الناعمة وانت تداعب حروفها بحنان أبٍ، وحتى قلمك الذي عذبه الجمود دون حراك فهو لم يعتاد ان يسكن قط فلطالما شعر بنبضك وانت تعطي الحياة بين أسطر الصفحات، ولطالما غرس اثارك فأثمرت حروفك جناناً وهبّت نسائم ريحك تنعش صدور الباحثين، ولطالما أطلقت فيضك فأمطرت عسجداً واقشعت الضباب المتراكم عن وجه الحق والحقيقة.
عام مضى وكل حجر في جامع الابلة فقد لونه وضعف ركنه فقد كان يستمد عطائه منك وقوته منك وزهوه منك وعمره منك، وكان لخطواتك جيئة وذهاب تزهر البلاط وتسند الجدران، وكنت مأوىً حين تجلس في ديوانك يومياً فما جزعت من سائل ولا منعت، كنت ماءاً يرتوي منه القاصي والداني والسقيم والفقير والمسكين وابن السبيل، لم يتوقف عطائك، فقد كنت بحراً من الجود، وكنت فيضاً من نور تضيء ليالي الحالكة ايامهم، وكفيك كانتا قمحاً، ونثرت قمحك مطعِماً، فتمددت واخضوضرت في كل زاوية من مدينتك البصرة الفيحاء التي كانت وابنائها همك اليومي وشغلك الشاغل.
مرّ على كسوف شمسك عام يا للعجب، اواه يا وجعي، احقاً مضيت، كيف مرت الأيام دونك يا ليتها لم تكن، بل ليتها توقفت كي لا تغادر شمسنا، عام مضى! والحزن خيّم داخلي وساخت الروح بفقدك واشتدّ انينها، عام مضى دون ان نسمع صوتك او تداعبنا كالأطفال ابتسامتك، بل حتى غضبك الشديد الذي كنا نهرب منه، او نحاول باي شكل امتصاص هذا الغضب الهادر والانفعال الشديد -كنّا نعرف علاماته- خوف ان يُتعب صحتك او يرفع مستويات السكري في دمك.
من اين ابدا وكل شيء لي معك بدايته انت، من اين أبدأ وانا في اخر السطر نقطة انتهاء وانت استهلال الكلمات والسطور، من اين أبدأ وكلما مسكت القلم لأكتب عنك ترتعش يداي وتضيع الكلمات مني، وكيف اتحدث عنك او معك وانت اوقدت في كل مفصل من مفاصل حياتي شمعة وكتبت على أسطر ايامي مفردات من الق ومنحتني منك الشيء الكثير، لازلت اجدك في تفاصيل حياتي، لازلت اسمع صوتك وارى تحركك، لازلت اجدني من حولك اتحرك ومعك اتحدث.
من اين أبدأ سيدي؟! وكيف اكتب تأبينك ولازلتَ حياً لم تمت عندي، كيف يقولون إنك رحلت؟! والالاف من أبناء البصرة يجدوك في قلوبهم كلمة هداية ويد خير وحنان اب، أيرحل من هو جزء من تاريخ مدينة، بل من صنع بعض تاريخها، والتاريخ لا يمت ولا ينتهي.
أ. وفي العامري