إن اللغة العربية من أغنى اللغات حيث التعبير، كما أنها تعد من أصعب اللغات في العالم والأقدم على الإطلاق، الله تبارك وتعالى كرّمها عن سائر اللغات الأخرى واصطفاها لتكون لغة القرآن الكريم، وكان لنجاح الإسلام في شبه الجزيرة العربية أنهم على دراية كاملة بإعجاز ما أتى في القرآن الكريم لغوياً، قال تعالى: (ولو نزّلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين).
واستكمالاً للإعجاز البياني واللغوي، نتطرق اليوم إلى التعبيرات الأخرى التي جاءت في القرآن الكريم، وفيها الإيجاز والإعجاز.
هناك ما يُسمّى من فنون البلاغة، فن الاحتباك، وهو أن تذكر كلمة وتحذف أخرى، لكن الكلمة الموجودة تدل على الكلمة المحذوفة، وهذا موجود في كلام العرب، قال تعالى: (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة)، في هذه الآية هناك شيء محذوف للبلاغة وللبيان وللإيجاز وللإعجاز، القرآن الكريم يعبر عن المعنى الكثير باللفظ القليل، وهذه هي البلاغة وهذا هو الإيجاز، وهذا هو الإعجاز وهذا هو البيان، (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة) في هذه الآية شيء محذوف، فأصل الكلام (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت)، وهذا يبيّنه قوله تعالى في آية أخرى: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) هنا كلمة الطاغوت تطلق على الشيطان وعلى أتباعه من الجبابرة والبُغاة والطُغاة.
وقال تعالى في آيةٍ أخرى: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون)، السؤال هنا في هذه الآية الكريمة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، لا يعلمون ماذا؟ الفعل علم يعلم، فعل من الأفعال المتعدية التي تنصب المفعول به، يعني أن هذا الفعل يحتاج إلى مفعول به، الله تبارك وتعالى ذكر في الفعل الثاني مفعوله، وذكر المفعول في الفعل الثاني ليدل على المفعول به الأول المحذوف، يعلمون ظاهر الحياة الدنيا، (ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا) ليكون الجواب لا يعلمون ماذا؟ لا يعلمون باطن الأمور والحقائق، ففي هذه الآية تكرر الضمير (هم) وهذا ما يسمى بالتوكيد اللفظي، الذي يكون بتكرار اللفظ، أما التوكيد المعنوي فيكون بالنفس والعين وكلا وكلتا وكل وجميع، (جاء فلان نفسه أو عينه أو جاء الرجلان كلاهما، وجاءت الفتاتان كلتاهما، وجاء الرجال كلهم، أو جميعهم)، بالتالي، أكد الله تبارك وتعالى في الآية بالتوكيد اللفظي، بغيبة الناس وعدم علمهم عن علم الآخرة، الذي هو علمان، علم المعاد، وعلم المعاش، علم المعاد هو الذي يبصر الناس بالدين، وبالآخرة، ويقوي الإيمان بالله عز وجل، ويجعل الناس تسير في طريق الحق، بالتالي، علم المعاد هو الفقه، قال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، و(إنما) هنا أدة حصر وقصر، الله تبارك وتعالى حصر وقصر خشيته على العلماء المتبحرين والذين تفقهوا في الدين والعلوم الدينية، أما علوم المعاش، تكون كالطب والهندسة والتكنولوجيا وما إلى هنالك من أمور ظاهر الحياة الدنيا.
بالتالي، الاحتباك هو ذكر شيئاً وحذف آخر، يستدل عليه من المذكور، كقوله تعالى أيضاً في آية أخرى: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا)، البلد هنا في اللغة العربية تعني الأرض الطيبة، نجد في هذه الآية كلمات محذوفة، لكن الإيجاز المعجز والاختصار العجيب في الآية الكريمة دل عليها، (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه) الكلمة المحذوفة، التقدير (والبلد الطيب يخرج نباته طيباً بإذن ربه)، (والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) يعني البلد الذي خبث لا يخرج نباته إلا نكدا.
وفي قوله تبارك وتعالى: (وكل شيء أحصيناه كتابا)، في هذه الآية يوجد كلمتان محذوفتان، التقدير (وكل شيء أحصيناه إحصاءً وكتبناه كتابا)، في الجزء الأول من الآية (وكل شيء أحصيناه) تم ذكر الفعل وحذف المصدر (إحصاء)، وفي الجزء الثاني من الآية ذُكر المصدر (كتاب) وهو مصدر الفعل كتب المحذوف.
وقال تعالى: (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون)، في (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) فكيف يذيقها لباس الجوع؟ هناك شيء محذوف، وعليه يكون التقدير: (فأذاقها الله طعم الجوع وألبسها لباس الخوف) واللباس هنا مصدر الفعل لابس كأن نقول (لابسني الخوف) أي تمكن مني ومازجني، واللباس الذي نعرف أي الذي يلامس الجسم، وكل فعل في اللغة العربية على وزن فَاعَلَ يأتي مصدره على وزنين مفاعلةٍ وفعال، كأن نقول (ضاربته مضاربةً وضراباً)، و(جاهد مجاهدةً وجهاداً).
كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، يحدث كفار قريش بالقرآن الكريم عن أخبار الأمم القديمة البائدة كـ عاد وثمود وغيرهما، وكان هناك فتى رومي أعجمي كان له علم بأخبار الأولين، اتهم كفار قريش الرسول بأنه ينقل لهم تلك الأخبار من ذلك الفتى الرومي، لكن كيف ذلك والرسول الكريم لا يعرف لساناً إلا العربية، وهذا الفتى الأعجمي لا يعرف كلمة عربية واحدة، فكيف لذلك أن يحدث؟ ولذلك رد عليهم الله تبارك وتعالى في قوله: (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين)، وهنا لا بد من توضيح أمر مهم، فكلمة البيان لا يمكن أن تكون إلا مع العربية، لأن العربية هي لغة البيان، ومن أسرار العربية، إذا اجتمعت العين والراء والباء تفيد الوضوح والظهور والانكشاف كأن نقول (أعرب الرجل عما في نفسه) بمعنى أبان وأوضح وكشف، فالبيان كلمة فوق الإفهام، إفهام فيه إبداع وفصاحة وإعجاز وجمال وحُسن، قال تعالى: (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان)، فلغة آدم عليه السلام هي العربية، قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم)، فالعربية هي اللغة التي تليق بالبشر.
وإذا اجتمعت العين والجيم والميم، أفادت الخفاء، ويقال أعجم بمعنى أخفى وأبهم، والبهيمة في اللغة العربية اسمها العجماء لأنها غير مفصحة ومبهمة أي مخفية، والليل المظلم سمي الليل البهيم لشدة ظلامه، ولذلك تستعمل العرب حروف (العين والجيم والميم) بمعنى الإخفاء.
ومن أسرار استخدام الكلمة أيضاً، كما في قوله تعالى: (ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالاً وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة بعمد ممدة) في هذه الآية سر استخدام الكلمة، (إنها عليهم مؤصدة) أي نار جهنم ولم يقل فوقهم مؤصدة لأن هناك فرق بين فوق وعلى، فوق تفيد التجافي كأن نقول (السماء فوقنا)، (إنها عليهم مؤصدة) أي مغلقة أي غطاء جهنم لاصق بهم، وحرف على يفيد اللصوق والمباشرة، (ركب الفارس على جواده، ولا يجوز القول فوق جواده).
والله تبارك وتعالى أقسم في سورة العصر، (والعصر إن الإنسان لفي خسر) المفسرون هنا يقولون إن العصر هنا هو الزمن والدهر، لكن السؤال هل من الممكن أن نضع بدل كلمة العصر، الدهر؟ الدهر كلمة لا يمكن وضعها بدل العصر، ولا يمكن أن تنوب عن كلمة العصر لأن هناك سر، الله تبارك وتعالى أقسم بالعصر ولم يقسم بالزمن أو بالدهر لأن من أسرار الحروف كلمة عصر التي تطلق على الزمن مكونة من العين والصاد والراء، والعصر يفيد عصر الشيء واستخراج خلاصته، فحذّاق البيان قالوا إن في قسم الله عز وجل بالعصر سر، لأنه أراد القسم بالزمن الذي يعصر الإنسان بالتجربة ويستخرج خلاصته مما عاشه خلال حياته واستفاد منه بالتجربة الممارسة على أرض الواقع.
وقال تعالى: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا)، أغفلنا هنا ليس المراد من أغفل قلبه عن ذكر الله، فمن أسرار العربية، بعض ما جاء من الأفعال على وزن أفعل يفيد وجود الشيء أو مصدافة الشيء على صفة معينة، العرب تقول زرنا بني فلان، فما أبخلناهم أي ما وجدناهم بخلاء، وهذا ينطبق على (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا) أي من وجدنا قلبه غافلاً عن ذكرنا، وقال العلماء لو كان المقصود هو أن الله تبارك وتعالى هو من أغفل قلبه عن ذكر الله، لقال في الجملة التالية (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه) أي لعطف الفعل الثاني بالفاء التي تفيد السببية كأن نقول (علمت فلاناً فتعلم)، بالتالي، لو كان الإغفال من الله تعالى لعطفت الجملة الثانية من الآية بالفاء، (وكان أمره فرطا) أي كان متجاوزاً للحد.
وفي قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولاغربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم) في هذه الآية أسرار، ففي قوله: (الله نور السماوات والأرض) النور هنا هو بمعنى الهداية، لكن قوله (مثل نوره كمشكاة)، هنا قالوا مثل نوره في قلب المؤمن، (كمشكاة فيها مصباح) والمشكاة هي الكوة التي تكون في الحائط ويوضع عليها المصباح ليضيء الحجرة، وقال العلماء، شبه الله تبارك وتعالى صدر المؤمن بالمشكاة، (المصباح في زجاجة) والمقصود بالمصباح هنا النور الذي يكون في الفتيلة الموقدة وهذا مقصود به الهدى في قلب المؤمن، فتشبيه قلب المؤمن بالزجاجة هنا لأن فيها ثلاث صفات، هي الرقة والصلابة والصفاء، وقالوا هذه الصفات الثلاث هي صفات قلب المؤمن، وأن يتصف قلب المؤمن بالرقة أي ليكون رقيقاً على المؤمنين، ويتصف بالصلابة ليشتد على الكفار، (أشداء على الكفار رحماء فيما بينهم)، وأما الصفاء ليدخل في قلب المؤمن الهدى والإيمان، (الزجاجة كأنها كوكب دري) وصف الله تعالى الزجاجة في صفائها وبريقها بالكوكب الذي يمتاز بشدة البريق والبياض، (يوقد من شجرة مباركة)، الضمير في يوقد لا يعود إلى الزجاجة بل يعود إلى المصباح الذي هو الهدى في قلب المؤمن، (نور على نور)، وهنا وصف للمؤمن الخيّر، نور الفطرة لأنه خيّر بفطرته.
من هنا، إن طريق العلم هو هداية للسير على طريق الحق والهدى، (أفلا يتدبرون القرآن) وليس من سبيل للهداية والعلم إلا بتدبر كتاب الله العزيز وسبر أغواره والغوص في بحر علومه الكثيرة، وما جئنا على ذكره في الأجزاء الماضية والحالية ما هو إلا غيض من فيض، للتبحر في القرآن ومعرفة ما فيه من الهدى والبلاغة والبيان والمقاصد والإعجاز، وللحديث بقية دائمة بعونه تعالى.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.