جرت سنة الله تبارك تعالى أن يظهر على يد كل نبي من أنبيائه معجزة يظهر بها على قومه وتكون دليلاً على صدقه في أنه مرسل من الله تعالى، واقتضت حكمته سبحانه أن تكون معجزة كل نبي من جنس ما نبغ فيه قومه، حتى يكون تحديه لهم فيما يتقنون وفيما يعرفون ليكون التحدي أعظم وأقوى.
فجاءت معجزة عيسى عليه السلام من جنس ما نبغ فيه قومه وهي إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله تعالى، وكذلك معجزة موسى عليه السلام، جاءت من جنس ما نبغ فيه قومه وهي العصا واليد وغيرهما، إلخ، ذلك من معجزات الأنبياء عليهم السلام، وشاءت حكمته سبحانه وتعالى أن تكون معجزة الرسول الخاتمة الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وآله سلم في التبليغ عن ربه هي القرآن الكريم من جنس ما نبغ وتفوق فيه قومه حيث إنهم أهل فصاحة وأرباب بيان فأنزل الله القرآن الكريم وتحداهم به فعجزوا عن الإيتان بمثله أو بعضه، ضمن هذا الإطار قال الشيخ الزرقاني: (النظر في هذا الكتاب الكريم بإنصاف تتراءى له وجوه كثيرة مختلفة عن الإعجاز، كما تتراءى إلى الناظر قطعة من الماس ألوان عجيبة متعددة بتعدد ما فيها من زوايا وأضلاع).
ففي الجزء السابق كنا قد تحدثنا عن سلاسل وجوه الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم، وأن التدبر والفهم العميق لآيات الذكر الحكيم هو أول سبيل للوقوف على وجوه الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم حيث لا يمكن حصر تلك الوجوه تفصيلاً فكلما أمعن المسلم النظر في كتاب ربه الكريم تبين له وجوه كثيرة وصور عديدة لهذا الإعجاز البلاغي، اليوم نستكمل هذه السلسلة، التي تتعلق بكتاب الله تعالى وبيان بعض وجوه إعجازه البياني حتى يعلم كل منصف أن القران الكريم قد وصل إلى سدرة البلاغة ومنتهى الفصاحة فلو قلب كل منصف بصره في القرآن الكريم لرأى بلاغته وفصاحته في كل آية بل في كل جملة من كلماته، وفي متابعة هذه السلسلة سنبين أيضاً جمال وروعة النظم القرآني من خلال دقته في استعمال بعض الكلمات القرآنية والتعبير بها خاصة دون غيرها وأنه لا يصلح التعبير بغيرها.
ونعيد التذكير بمعنى الإعجاز والقصد منه، حيث أنه إثبات العجز، والمعجز هو: القصور عن فعل الشيء، وهو ضد القدرة وإذا ثبت الإعجاز ظهرت قدرة المعجز، وتفرد المعجزة، وأما إعجاز القرآن، فهو: إثبات القرآن عجز الخلق عن الإتيان بما تحداهم به، أي نسبة العجز إلى الناس بسبب عدم قدرتهم على الإتيان بمثله أو بسورة منه، والجدير بالذكر هنا أن العلماء ذكروا في تعريف الإعجاز أقوالاً عديدة تختلف ألفاظها وتتحد معانيها منها، أنه يتعذر على المتقدمين في الفصاحة فعل مثله في القدر الذي اختص به، ومن الممكن القول أيضاً، إنه عجز المخاطبين بالقرآن وقت نزوله ومن بعدهم إلى يوم القيامة عن الإتيان بمثل هذا القرآن مع تمكنهم من البيان وتملكهم لأسباب الفصاحة والبلاغة وتوفر الدواعي، واستمرار البواعث، والتي تحدثنا حولها في عشرات المقالات سابقاً.
بالتالي، إن إعجاز القرآن، المقصود منه أمرين، الأول، إثبات أن هذا القرآن حق منزل من عند الله تعالى، الثاني، إثبات صدق نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله سلم، وأنه رسول الله الذي أيده الله بهذه المعجزة الخالدة، وإذا ثبت الإعجاز، ثبتت المعجزة فالقرآن وهو المعجزة الخالدة لرسول الله صلى الله عليه وآله سلم، دليل صدق على أنه كلام الله تعالى وأن محمداً عبده ورسوله وأن الحجة قائمة وقاطعة بأنه ليس من قول المصطفى، ولا من قول غيره من البشر من باب أولى.
فأهمية الإعجاز القرآني تكمن في أنه به يُعرف صدق صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله سلم، فيما يبلغ عن ربه عز وجل، الإيمان اليقيني بهذا القرآن يخرج الانسان من حيرة الضلال إلى سكينة الهدى، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم، قال تعالى: (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد)، وإن إثبات كون القرآن الكريم معجزة خارقة للعادة أنزلها الله على قلب رسوله محمد صلى الله عليه وآله سلم، ولم يستطع أحد معارضتها هو الباب الأعظم والأوسع لدخول بني الإنسان في دين الله أفواجاً، يقول الإمام الزركشي (بدر الدين الزركشي أبو عبد الله، بدر الدين، محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي المصري، فقيه، أصولي ومحدث 1344- 1392)عن إعجاز القرآن: (هو علم جليل، عظيم القدر لأن نبوة النبي صلى الله عليه وآله سلم، معجزتها الباقية القرآن، وهو يوجب الاهتمام بمعرفة الإعجاز)، وهناك رأي للإمام محمد رشيد رضا (محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني، البغدادي الحسيني صاحب مجلة المنار وأحد رجال الإصلاح الإسلامي 1865 – 1935) يتسم بالدقة المختصرة التي تعبر حقيقةً عن الإعجاز القرآني: (الكلام في وجوه إعجاز القرآن واجب شرعاً وهو من فروض الكفاية).
لكن الحقيقة أن الإعجاز القرآني ما كان لولا أن من ورائه حكماً وأحكاماً، تنير درب المسلم والمؤمن في معاملاته في الدنيا والآخرة، فرغم أن العرب كانوا أرباب فصاحة وبلاغة وفرسان قول وبيان، ولهذا كانت معجزة النبي صلى الله عليه وآله سلم، القرآن الكريم البليغ المعجز، وذلك لتكون المعجزة من جنس ما اشتهر به قومه، فالعربي تستهويه الكلمة الفصيحة، ويملك ناصيته البيان المعجز والأسلوب البليغ، ولذلك كان الإعجاز البلاغي من أبرز وجوه الإعجاز وأظهرها إذ هو المطابق لأحوال العرب وقت نزول القرآن، فالتحدي يكون بجنس ما برز فيه القوم وتفوقوا وهم تفوقوا في البيان والبلاغة والفصاحة ولم يتفوقوا في العلوم والمعارف وأخبار الغيب أو التشريع أو نحو ذلك، فكان الإعجاز بالبيان أظهر وجوه التحدي وأبرزها، والقوم أدركوا أول ما أدركوا إعجازه البياني، فملك منهم الألباب واستولى على الأفئدة، ويطلق على هذا الوجه عدة مصطلحات فيسمى، الإعجاز البياني، الإعجاز البلاغي، والإعجاز اللغوي، في هذا السياق، قال أبو بكر الباقلاني ( القاضي محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم القاضي أبو بكر الباقلاني البصري، الملقب بشيخ السنة، ولسان الأمة 950 – 1013) عن القرآن: (إن عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت ولايتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وإعذار إنذار وغير ذلك من الوجوه التي يتمثل عليها، ونجد كلام البليغ الكامل، والشاعر المغلق، والخطيب المصفح يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو، ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح، وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد واحد في حسن النظم وبديع التأليف والوصف لا تفاوت فيه ولا انحطاط عن المنزلة العليا ولا إسفال فيه إلى الرتبة الدنيا، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر).
ونخلص إلى أن الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم، هو الغاية العظمى في أداء المعاني ووضوحها بما يعجز البشر عن الإتيان بمثله، عندما شرحنا في مواضيع سابقة الإعجاز اللغوي لسورة الفاتحة اكشتفنا أسرار لغوية لم نكن لنعرفها لولا أن الله سبحانه وتعالى أراد من ورائها قواعد وحكم محددة قدّم ما قدم وأخّر ما أخّر، وجعل الضمير حاضراً أو غائباً كله لغاية محددة تسير في معاني الربوبية والألوهية وسياق الكلمة، ووجدنا من أول كتاب الله العزيز من فاتحة الكتاب إلى سورة الناس كل آية قد تحققت فيها الفصاحة والبلاغة في أبهى صورها، ولوجدنا أن معاني الكلمات تنساب إلى القلب قبل أن تبهرنا الألفاظ بجمالها، سواء في السور والآيات التي تلفت أنظارنا إلى الآفاق لنستدل على الصانع سبحانه، أو الآيات التي تتعلق بالبعث والنشور والموقف والحساب أو تلك الآيات التي تتعلق بالأسرة والأحكام والحدود، وكل تلك الآيات تحمل الدلالة العظيمة على إعجاز القرآن البياني وجماله.
أخيراً، ومما لاشك فيه أن وجوه الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم لا يمكن حصرها على وجه التفصيل فالقرآن الكريم كما قلنا من يتأمل فيه بإنصاف يتراءى له في كل مرة وجوه مختلفة من الإعجاز البياني أو البلاغي إذ أن مراتب البيان في القرآن لا يمكن حصرها، فالذي يقرأ القرآن بتدبر وإنصاف يجد في آياته من الوضوح ما يبوّئها الدرجة العليا في البيان بأسلوب محكم خال من كل غريب عن الغرض، فإذا أعاد النظر مرة أخرى لاح له منها معان جديدة فإن زاد التدبر زاد العطاء، وانكشف له ما يجعله يوقن ببلوغ القرآن الغاية العظمى في الفصاحة والبلاغة، و أن ما تميز به من جودة النظم وحسن الأسلوب والتناسب والترابط بين آياته وسوره مع نزولها في أوقات مختلفة وأزمنة متباعدة إلى آخر ما هنالك، لهو أسطع برهان على أنه حقاً كما جاء في قوله تبارك وتعالى: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير).
عبدالعزيز بن بدر / كاتب ومفكر – الكويت.