في مقطع فيديو للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تداوله الناس بكثرة، أيام استقباله للرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوج في تركيا، يومَي الأربعاء والخميس التاسع والعاشر من فبراير 2022، تحدّث فيه عن رؤيا رآها قائلًا: “رأيتُ طفلا يبكي بالمسجد الأقصى.. جثوتُ على أرضه، ووضعتُ جبهتي فكأنّ نهرًا كان يهدر تحت الأرض وعيونُه متوقفة تنظر إلى الطريق يقول: أين هم إخواني فليخرجوا صوتًا.. هل نسيني الجميع وأنا قِبلتُهم الأولى وقِبلة الأنبياء؟”. لم يكن هذا المقطع الوحيد المتداول، فهناك الكثير من المقاطع التي تبادلها الناس تدور في الإطار نفسه، في صورة بليغة عن بيع الأوهام للمخدوعين، واستدرار عواطف الناس المتعطشين لأيّ بطولة حتى وإن كانت لفظية أو صوتية. دارت تلك المقاطع حول نقطة واحدة هي التصريحات الرنانة والشجاعة التي أطلقها أردوغان من سنوات، التي تتعارضُ معارضة تامة مع الأفعال. وقد رصد الصحفيّ أحمد علاء في جريدة “الشروق” المصرية ردود الفعل تجاه الاستقبال الحار الذي حظي به رئيس الكيان الصهيوني من قبل أردوغان، مع نشر خمسة مقاطع فيديو، يَظهر أردوغان في إحداها وهو يقول إنّ التاريخ لن يسامح من وصفهم بـ “الخونة”. وقال في كلمة قاطعها الحاضرون للتصفيق لأكثر من مرة: “القدس هي قضية المسلمين كافة وهي فخر وشرف المسلمين.. القدس هي البلدة المقدسة في الكتب الثلاثة السماوية”. صحيحٌ أنّ أردوغان لم يحدّد من هم الخونة وما هي صفاتهم، لكنه كان يشير إلى من أيّد صفقة القرن التي أطلقها الرئيس الأمريكي السابق ترامب، ورأى أنّها ليست شرعية ولا قانونية وليست مقبولة على الإطلاق “وعلى كلّ الدول ومن لديهم وجدان وضمير أن يدفعوا عن القدس وعن فلسطين. ونحن لا ندعم أيّ طرف يريد تشويه القدس وفلسطين”. وأنا لا أعلم ما قصده بعدم دعم أيّ طرف يريد تشويه القدس، فهو قد التقى بكلّ القيادات الإسرائيلية، وكان أول رئيس لدولة إسلامية يزور متحف “الهولوكوست” عام 2005، الذي أقامته دولة الاحتلال الإسرائيلي، والتقى آرييل شارون رئيس حكومة الاحتلال آنذاك. ويُظهر فيديو منشور في موقع “الشروق” دفء وحرارة اللقاء بين الرجلين. ولا أظن أنّ إسرائيل تكبر وتتقوى دون دعمٍ من المطبّعين العرب، وبالتأكيد فإنّ هذه النقطة ليست غائبة عن باله، وهو الذي وقف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2019، ممسكًا بصور لخرائط تُظهر توسع مساحة دولة الاحتلال الإسرائيلي على حساب الأراضي الفلسطينية، وقال بصوت مرتفع كعادته: “إسرائيل تكبر وحدودها تكبر وفلسطين تصغر ومساحتها تصغر.. الآن وصلنا إلى مرحلة انعدام فلسطين”.
زيارة الرئيس الإسرائيلي لأنقرة، والحفاوة البالغة التي استُقبل بها، فتحت بابًا في منصة التواصل الاجتماعي “تويتر” للهجوم على الرئيس التركي أردوغان؛ وتصدّر وسم “خليفة المسلمين” الترند، وهو وصفٌ أطلقه أنصار جماعات الإسلام السياسي خاصةً جماعة الإخوان المسلمين على أردوغان؛ ورفض مغرّدون أيّ محاولة لتبرير اللقاء ورأوا في الاستقبال الحافل سقوطًا مدويًا لورقة التوت؛ فيما اتهم مغرّدون آخرون أردوغان بأنه كان “يتاجر” بالقضية الفلسطينية.
ليفعل أردوغان ما يشاء، فذلك شأنٌ يخصّه هو، إذ أحرج أتباعه وحواريّيه الذين رأوا فيه محررًا للأقصى، وعاشوا على أوهام الخلافة والتحرير، وأرادوا أن يطول ليلُهم ويستمرّوا في أحلامهم، لكن الفجر أطلّ عليهم كالحريق، فإذا الواقع مرير، لكن أغلبية أنصار أردوغان اختاروا السكوت والانكفاء على الذات، وهؤلاء – بالتأكيد – أفضل من الآخرين الذين اختاروا سلوك تبرير الزيارة الذي وصل إلى السذاجة، كأن يقولوا إنّ الرئيس التركي مرغمٌ على ذلك، والاستقبالُ من وراء قلبه لحماية مصالح بلده. وهناك كثيرون كانوا قد هاجموا الدول العربية التي طبّعت مع الكيان الصهيوني، لكنهم هنا صمتوا، وبرّروا أنّ الفلسطينيين أنفسهم طبّعوا، فلماذا يقع اللوم عليه هو؟ وهذا منطقٌ أعوج بكلّ المقاييس، فهو يعني أنّ الإنسان إذا فسدت أخلاقه فعلينا نحن أن نفسد مثله؛ وكما هو معلومٌ فإنّ هناك قطاعات كبيرة من الشعب الفلسطيني ترفض ما يسمى بالتنسيق الأمني مع الكيان، وتتمسك بالمقاومة، ولماذا نتجاهل مثل هؤلاء، ونبرّر التهافت على إسرائيل بحجة أنّ القيادة الفلسطينية تطبّع مع إسرائيل؟ وهناك من رأى أنّ أردوغان ليس عربيًا حتى يقارَن بالمطبّعين العرب، وكأنّ هناك حلالًا عند البعض وحرامًا عند الآخرين، رغم أنّ الفعل واحد والنتيجة واحدة، فالخطأ هو خطأ سواء صدر من عمرو أو من زيد؛ وهناك من يرى أنّ أردوغان يسعى وراء مصالح بلده وشعبه، وبهذا المنطق نستطيع أن نقول لماذا يُلام من روّج للديانة الإبراهيمية مثلا؟ ولماذا يُلام من اعتدى على شعب جار أعزل؟ ولماذا يُلام من تنازل عن سيادة وطنه، وكثير من الأسئلة التي يمكن أن نبرر لأصحابها الوقوع في الخطايا، باعتبار أنّ ذلك لمصلحة الشعوب. وهذا يقودنا إلى نقطة هامة هي لماذا استغلال الدين واللعب بمشاعر المسلمين؟ فتركيا على علاقة وثيقة بالكيان الصهيوني منذ إنشائه، فلا داعي لإنكار تلك العلاقة عن طريق التمسح بمسوح الدين والتّغني بالصراخ دفاعًا عن المسجد الأقصى، ولا داعي لترديد أنّ العلاقة قديمة ليس لأردوغان دخل فيها.
لقد صدمت زيارة الرئيس الإسرائيلي لتركيا الحواريّين، لكنّ الصدمة لم تُصِبهم وحدهم فقط، بل وصلت إلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي اللتين انتقدتا الزيارة بعبارات ناعمة ومبهمة؛ فحركةُ حماس التي تملك علاقات قوية مع النظام التركي أصدرت بيانًا قالت فيه إنها “تدين زيارات المسؤولين الإسرائيليين إلى دول عربية”، لكنّها تفادت ذكر تركيا وأردوغان بشكل مباشر، وأعربت عن أسفها “من تلك الزيارات للدول العربية والإسلامية، التي نعدّها عمقًا استراتيجيًا للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية العادلة”؛ فيما كانت حركة الجهاد الإسلامي أكثر وضوحًا عندما قالت في بيانها إنها تستنكر بشدة استقبال هرتزوج في تركيا على وقع التصعيد العدواني الإسرائيلي في القدس، معتبرةً أنها “تمثل انحيازًا للعدو في مواجهة جهاد الشعب الفلسطيني”. وفي جملة معبّرة قالت الحركة إنّ السعي لاستعادة العلاقات مع إسرائيل بذريعة مصلحة هذه الدولة أو تلك هو “خذلان للقدس وفلسطين”. ويدور في ذهني سؤال: هل ستطرد تركيا قيادات حماس وتصنّفها يومًا ما حركة إرهابية؟ لا أستبعد ذلك وقد شهدنا كيف ضيّقت الخناق على القنوات الفضائية الإخوانية التي تبث من تركيا، بعد التحسن الطفيف في العلاقات المصرية التركية، وحينها لا أدري ماذا سيقول الحواريون والمخدوعون، وهل سيبرّرون لخطوة كتلك؟
أما موقف جماعة الإخوان المسلمين، فلم يكن بعيدًا عن المبرّرين للزيارة، وكانت الجماعة تشن هجومًا حادًا عبر منصاتها الإعلامية على لقاءات سابقة لقادة ومسؤولين عرب بالإسرائيليين، لكنهم تجاهلوا بشكل كبير زيارة الرئيس الإسرائيلي لأنقرة، ولم يقتصر الأمر على التجاهل بل ظهر من الجماعة من يبرّر لها، واختفى الشيوخ الذين ملأوا الدنيا ضجيجًا، وفي كلّ الأحوال فإنّ هذا يُسحَب من رصيدهم عند الناس.
كشفت زيارة الرئيس الإسرائيلي لتركيا، سياسة النفاق والكيل بمكيالين، حتى على مستوى العوام وعند الكثيرين من الشيوخ والإعلاميين، فهم استيقنوا في أنفسهم أنّ الزيارة خطأ، لكنهم جحدوا بهذه الحقيقة ظلمًا وعلوّا ومكابرة، ومع ذلك يبدو أنّ قنبلة مدوية تنتظرهم حتى يستفيقوا من سُباتهم، وربما لن تكون بعيدة.
زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي.
جريدة عمان. عدد الإثنين 21 مارس 2022م