في جلسة مع مجموعة من الأصدقاء، دار الحديث حول الكتابة والكتّاب العمانيين، وطرح البعض اسم الكاتب علي بن مسعود المعشني، واختلفت فيه الآراء – وهذا أمرٌ طبيعيٌ جدًا – باعتبار أنّ الحُكم عادةً يكون حسب خلفية الشخص وتوجهاته؛ رأى البعض أنّ علي متحاملٌ على الإخوان وأردوغان، فيما تهجّم أحدُهم على الفكر القومي، ورأى أنّ علي من معتنقيه ناعتًا ذلك الفكر “بالقومجية”، وهي كلمة يُقصد بها جماعة تؤمن بفكرة القومية وتروّج لها، ومفردها “قومجيّ”؛ فيما قال ثالثٌ: “نحن ما عرفنا لعلي المعشني، فمرةً نجده يمدح الدولة لحدّ التطبيل، ومرةً نجده ينتقدها بشدة”. قلتُ لهم إنّ علي يتميّز عنّا بأنّ له علاقات وصلات قوية ومتشعبة مع شخصيات بارزة في الوطن العربي والإسلامي، من سياسيين ومثقفين وكتّاب واقتصاديين، وله علاقات خاصة مع البعض، ممّن يمكن أن نسمّيهم “الصندوق الأسود”، لذا فإنّ ما يكتبه أو يقوله في مقابلاته وفي قناته اليوتيوبية “ما قل ودل” عبارة عن معلومات استقاها من لقاءاته ومناقشاته الكثيرة تلك، مع من يلتقيهم أو يتواصل معهم؛ فما يكتبه هو حصيلة قراءاته ولقاءاته تلك، وهنا يكمن الفرق بين أن تستقي المعلومة من مصدرها أو أن تقرأها في الكتب والصحف. هنا قال أحدهم إنه لاحظ أنّ علي وصف في إحدى مقالاته الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة بالصديق، وأشار إلى أنّ علاقة معرفة كانت تربطه به.
ذكرتُ للأصدقاء أننا ككتّاب نعاني معاناة شديدة من بعض القراء الذين يرغبون أن نكتب لهم ما يتناسب مع توجهاتهم فقط، أما إذا كتبنا عكس ذلك فإننا نقع في اللوم، ومن هنا فإنّ علي المعشني يرى أنّ ما تقوم به الدولة إن كان يستاهل المدح يمدحه، وإن كان في رأيه خطأ فينتقده، وهذا هو العدل والمنطق، وهذه هي صفة الكاتب النزيه.
في كتابه الصادر مؤخرًا، باسم “ذكريات.. تشبه السيرة الذاتية” يؤكد علي ما ذهبتُ إليه؛ ففي رأيه أنّ أعظم لحظات الكسب المعرفي هي مجالسة العلماء والمفكرين والساسة ومحاورتهم، والبحث عمّا يغيب عنك. ويقول إنّ الأقدار شرّفته باللقاء بجملة لا بأس بها منهم، والتواصل معهم في مناسبات مختلفة، أسهلها التواصل الهاتفي في زمن ثورة الاتصالات. وعن نتيجة ذلك يقول: “كان لهذا أثرٌ كبيرٌ في نفسي وعقلي ومعرفتي، وتحوّلٌ كبيرٌ من مخاطبة النصوص الجامدة عبر الكتب، أو الإذعان المعرفي عبر وسائل الإعلام المختلفة والتسجيلات، إلى التخاطب والحوار المباشر وجهًا لوجه”.
تجربةُ علي المعشني لا يمكن حصرها في الكتابة فقط، بعد أن نال شهرة في السنوات الأخيرة من خلال مقالاته ومقابلاته ومقاطعه المصورَة التي تنتشر عبر الواتساب، وإنّما هي تجربة ثرية تبدأ مع ميلاده عام 1963 في جبل طاقة في محافظة ظفار، في وقت عاش فيه جيل ذلك الزمان طفولته حياة بدائية فيها القسوة في كلّ شيء، وسرعان ما انتقل في صباه إلى بدائية محسّنة ببعض الرفاه، ثم مرحلة الشباب المُعذّبة بالتطلعات، وصولا إلى الرجولة المؤطرة بقيم المجتمع الصارمة. وعندما اشتدت وتيرة الحرب في ظفار بين الجيش السلطاني والثوار تُقرّر عائلة المعشني الرحيل عام 1968 إلى مديرية حوف بمحافظة المهرة باليمن الجنوبي وقتها، للالتحاق بخاله سالم بن بخيت بن زيدان البرعمي، والهدف النهائي هو الالتحاق بوالد علي، الذي يشتغل في دولة قطر، فكانت تلك الرحلة الأولى في حياته والتي اكتنفتها المخاطر، إذ كانت سيرًا على الأقدام أولًا عبر جبال شاهقة وأودية سحيقة وأحراش وأدغال والقليل جدًا من الأراضي المنبسطة، وما زاد من قسوة الرحلة تكونها من أسر بكاملها من رجال ونساء وأطفال، حيث كان العدد يصل إلى ثمانين شخصًا من أعمار وأجناس مختلفة، إضافةً إلى الخوف في الوقوع في كمائن الجيش في أيّ لحظة؛ لذا كان المسار حذرًا جدًا، وكان أغلبه ليلا، لكن الرحلة بالنسبة للطفل علي المعشني كانت ممتعة؛ فبدأ عقله في تدوين كلّ شيء في ذاكرته الفوتوغرافية البيضاء الخالية من أيّ مؤثرات، خلاف ما تلتقطه حواسه في تلك البيئة وفي ذلك العمر. ويقول إنهم لم يشعروا بالأمان الحقيقي إلا حين وصلت القافلة إلى منطقة “شهب أصعيب” بالمنطقة الغربية، حيث يتذكر ملامح البشاشة على وجوه الكبار، واستراحتهم في كهف “أرقب ايشرح” وهو عبارة عن كهف صخري صغير وضئيل على شكل ثغر مفتوح ومبتسم، حيث لا زال شكل الكهف واسمه عالقين في ذاكرته حتى يومنا هذا، وقد غادروا الكهف في اليوم التالي حتى وصلوا إلى حوف، وهناك بنى خاله منزلا، والتحق علي بالدراسة بمدرسة الثورة الأولية التابعة للدولة اليمنية عام 1969.
بدأ فكر علي المعشني يتكوّن باكرًا، لأنّ الوضع العام في حوف كان أشبه بالوضع البوليسي، إذ مارست الثورة القبضة الحديدية على السكان، تلك القبضة التي استوردتها من النهج الماركسي، وتماهت بذلك مع مضيفها الحزب الاشتراكي الحاكم في جنوب اليمن، وتنامت هذه القبضة وبرزت على السطح عامي 1970 و1971 اللذين شهدا عددًا من الاعدامات والتصفيات الجسدية والاعتقالات التعسفية والسجون وصنوف التعذيب لإرهاب الناس. ويرى علي – بوعي اليوم – “أنّ أغلب تلك السلوكيات المشينة كانت بدافع الكيدية، وتراكم ثارات قبلية، وأحقاد اجتماعية لا أكثر ولا أقل، أضف إليها منسوبًا لا يُستهان به من المراهقة الثورية والصبيانية السياسية، وطلاسم النظريات التي فاقت حينها منسوب الوعي لدى قيادات الثورة وكوادرها ونضجهم وإدراكهم”، وإن ينس فلا يستطيع أن ينسى إعدام خاله سالم بخيت زيدان البرعمي غدرًا وغيلة، حيث ظلت والدة علي تبكيه إلى آخر يوم في حياتها.
ومن الدروس التي استفاد منها علي المعشني، وهو في مقتبل شبابه، أنّ تجربة القبضة الحديدية للثورة، وموجة الإعدامات العبثية التي تمّت، والتهم الجاهزة الممجوجة، والمراقبة الصارمة للناس في سلوكياتهم وأقوالهم لمحاسبتهم لاحقًا، إضافةً إلى أحوال الناس في مديرية حوف، وتشتتهم وانعدام الأمان وترقب الموت في كلّ لحظة، جعله اليوم يسحب تلك المرارات على تجارب شعوب وأوطان عرفت القبضة الحديدية والبطش والحروب والنزوح والتشريد لعقود طويلة، وجعله كلُّ ذلك يتفهم حجم معاناة تلك الشعوب من عناوينها، دون الحاجة إلى التفاصيل. وهو يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يرى أنّ الثورة في ظفار خلقتْها ظروف موضوعية من حيث الزمان والمكان، وكانت ضرورية وملحة لتغيير الواقع المرير، من العزلة والانغلاق عن العالم؛ لكن الثورة تحوّلت قسرًا إلى صدىً حقيقي وطبيعي لأطوار وسياسات جمهورية اليمن الديمقراطية وتحولاتها، حيث تحولت من القومية إلى الماركسية بعد تعثر النموذج “الماوي” بالتجربة والثورة معًا، وهنا واجهت الجمهوريةُ والثورةُ أعداء التغيير بالتصفية، فكان من نتائج هذا، تعاظم الثارات واهتراء نسيجهما الداخلي وفقد المناعة بالتدريج. ويصل على المعشني إلى نتيجة أنّ: “لطف الله وحده بالمحروسة ظفار أنّ الثورة لم تنتصر، وكانت الغلبة للحكومة، لأنّ تثبيت حكم على نهج شيوعي ماركسي وترسيخه سيتطلب تصفيات جسدية وقبضة حديدية لترهيب الناس وإخضاعهم لهذه الأفكار الدخيلة”.
التحقت عائلة علي المعشني برب الأسرة في قطر عن طريق رحلة جوية من عدن إلى الكويت، ومن الكويت إلى الدوحة، ويصف علي تلك الرحلة بدقة، وكيف التأم شمل الأسرة في قطر، ويبدأ المعشني مرحلة جديدة من حياته، حيث التعليم والعمل والتعرف على الناس، وإقامة علاقات متنوعة معهم، وأيضًا من خلال الاهتمام بالقراءة وبتثقيف الذات، لدرجة أن يفقد الرغبة في متابعة المناهج الدراسية التي رأى أنها “معلبة” ولا تُشبع نهمَهُ وعطشه للمعرفة. ومن جميل ما قرأتُ في الذكريات قصة وفاء علي لمعلمه السوري الأستاذ نادر الذي التحق بالمدرسة معلمًا للغة العربية، والذي كرر له أكثر من مرة أنه يتوقع له “مستقبلا باهرًا في مجال الأدب”. وبما أنّ علي عاد إلى عُمان والتحق بالعمل في وزارة الخارجية ثم في مجلس الشورى وانقطعت صلاته بأستاذه، إلا أنه في زيارته لسوريا عام 2006 قرر أن يبحث عنه ويهديه ثلاثة من كتبه التي أصدرها حينها وهي “كلمات عابرة” و”تأملات سياسية” و”خواطر دبلوماسية”، وقد بحث عنه حتى توصل إلى ابنه، وعلم أنّ الأستاذ نادر توفاه الله في قطر عام 1986. وقد نشأت علاقة خاصة بين علي وابن استاذه حتى الآن.
من يقرأ ذكريات علي بن مسعود المعشني، يخرج بانطباع أنه كان مقلا جدًا في سرد تلك الذكريات لدرجة البُخل؛ لأنها لم تكن ذكريات فقط، بل فيها التحليل وفيها المعلومة وفيها تجربة حياة. وكما هو معلوم فإنّ بعض التجارب والذكريات لا تخصّ أشخاصًا بعينهم؛ فهي تمثّل جيلا كاملا عاش التجارب نفسها؛ فنحن في زمن تغيّر فيه وضعُنا فأصبحنا نفتقدُ إلى شخصيات لها علاقات عامة كثيرة ومتنوعة، وإننا في أمسّ الحاجة إلى الاستفادة من خبراتها وعلاقاتها واتصالاتها، بدلا من ركنها.
• زاهر المحروقي كاتب مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب “الطريق إلى القدس”.
. جريدة عمان. عدد الإثنين 28 مارس 2022م