من الأسئلة الشائعة التي تتردد في أذهان الكثيرين، هل يتعارض إعمال العقل في أمور الدين مع حقيقة الإيمان؟ وهل في التوفيق بين الدين والفلسفة مغالطة قد تصيب صلب العقيدة؟ لقد كتب كثيرون عن هذا الموضوع، هي قضية شغلت الفلاسفة والمفكرين لعقود، منذ زمنٍ بعيد وإلى الآن.
ولعل من أبرز العلماء التي توقفت كثيراً عند الجانب الفلسفي، الفيلسوف ابن رشد، الذي جعل من هذا الأمر شغله الشاغل وأفرد له مساحات واسعة من عموم كتاباته، فكتب “فصل المقال”، و”الكشف عن مناهج الأدلة” ثم “تهافت التهافت”، فأتت فلسفة ابن رشد لتثبت أن ما بين الدين والفلسفة ما هو إلا نزاع وهمي، هذا النزاع فجّر خلاف بين الغزالي والفلاسفة المسلمين، أمثال الفارابي وابن سينا، وكانت سبباً في أن كتب الإمام الغزالي كتابه المعروف “تهافت الفلاسفة”، كما كانت أيضاً سبباً لأن قام ابن رشد يرد على الغزالي بكتابه المعروف “تهافت التهافت”، وكما ذكرت بالأمس سنقوم بتفصيل هذا الخلاف وفقاً لآراء أهم الكتّاب والدراسات المتوفرة في هذا الخصوص.
هاتان المعركتان إن جاز التعبير، لا يزال لهما الأثر العميق في التفكير الفلسفي الإسلامي، بالتالي، إن تاريخ أبو حامد الغزالي (450 هـ – 505 هـ) كبير جداً، وكتابيه يمكن القول إنهما من الكتب الخالدة وهما (إحياء علوم الدين، وتهافت الفلاسفة)، وفكر حجة الإسلام، فكر وضّاء ونيّر وخدم الدين الإسلامي بالحجة والعلم، فالكتاب الأول ضم بين طياته علم الكلام القائم على القرآن والسنّة والسهل الفهم والإقناع، والأمور العملية الأساسية الدينية كالعبادات والعادات الطيبة؛ فيما يتصل بالزواج والاتجار والسفر، وغير ذلك من شؤون الحياة، ومن التصوف والأخلاق القائمين على المعرفة بالنفس الإنسانية معرفة أكيدة حقة، ومن غير هذا وذاك كله مما فيه غذاء صالح لقلب الإنسان وعقله وروحه، لذلك قلّما نجد مسلم مهتم بالعلوم الشرعية إلا وانكب على دراسته وفهمه فهماً عميقاً، أما كتاب “تهافت الفلاسفة” لا شك بأنه جاء في وقت كانت الحضارة الإسلامية في ذروتها العلمية، وكنا قد شرحنا بإسهاب أهمية العلم في الدولة العباسية، وكذلك الدولة السلجوقية، وكيف كان البلاط الملكي يحتضن كل العلماء من كافة الاختصاصات، وكانت الترجمة في قمتها، حيث بدأ العلماء المسلمين والعرب إخراج أيقونات فكرية وعلمية للعالم أجمع، بالتالي، جاء كتاب الغزالي الثاني وقد بلغت الفلسفة الإسلامية ذروتها أو كادت على يدي الشيخ الرئيس ابن سينا، ووجد كثير من المسلمين أنها حوت آراء كثيرة لا تتفق وما يعرفون من العقائد الدينية الأساسية، فظهر الغزالي بهذا الكتاب “والناس، كما يقول تاج الدين السبكي (638 هـ – 756 هـ)، إلى رد فرية الفلاسفة أحوج من الظلماء لمصابيح السماء، وأفقر من الجدباء إلى قطرات الماء”، يقول محمد يوسف موسى (1899 – 1963): (ولكن لا ينبغي أن نفهم من هذا أن الغزالي هو الذي بدأ الهجوم على الفلاسفة، ذلك بأن المُتكلمين من أهل السنة، وقد رأوا ضرورة خصومة المُعتزلة لإعطائهم العقل حُرية أكثر مما ينبغي في فهم بعض العقائد الدينية صفات الله، والصلاح، والأصلح مثلاً، رأوا بالأولى ضرورة حرب الفلاسفة منذ بدء تكوُّن المدرسة الفلسفية في الإسلام).
ومن المعروف تاريخياً أن الغزالي ولد بعد عشرين عاماً من وفاة ابن سينا، لقد كان حجة الإسلام، فقيهاً، ومتكلماً، وصوفياً، ومتبحراً في الدراسات الفلسفية، فرأى أن القدر أعده ليكون الرجل الذي يربح المعركة الفاصلة ضد الفلسفة والفلاسفة، وقد كان يحس فعلاً بهذه الرسالة التي يجب أن يضطلع بها دون تريث، فاندفع إلى أدائها بضمير يقظ وعقل قوي محيط، فكتب في ذلك كتابه “تهافت الفلاسفة”، لغرض تبيان تهافت الفلاسفة وتناقضهم فيما بينهم، فقد كان يرى الغزالي أنه قد هاله أن المتفلسفين المسلمين، وبخاصة الفارابي وابن سينا، قد تركوا الدين، اغتراراً بعقولهم، وتقليداً للفلاسفة القدماء من أمثال سقراط وأفلاطون وأبقراط وغيرهم، خاصة فيما يتعلق بالإلهيات، ما يعني أنهم انحرفوا عن سبيل الله الحق، فقد اتخذ حجة الإسلام في البداية من اختلاف الفلاسفة اليونان في المسائل الإلهية فيما بينهم، دليلاً على أن آراءهم فيها محتملة للشك؛ ولذلك نراه يقول: “ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين، نقية عن التخمين، كعلومهم الحسابية والمنطقية، لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية”، وهذه حجة نجدها بعد أكثر من خمسة قرون لدى “رينيه ديكارت” الفيلسوف الفرنسي (1596 – 1650)، وذلك عندما أخذ في نقد ما بعد الطبيعة، فلم يهاجم الغزالي ما كان موثوقاً من فلسفة اليونان، أي الرياضيات والطبيعة القائمة عليها والمنطق، بل ركز حملته على الطبيعة وراح ينقدها بشدة؛ ليقيم بدلها ما جاء به الدين الذي نجد فيه ما يعجز العقل عن الوصول إليه من المسائل الإلهية، فكان لا ينقد إلا مع الأدلة ولغاية واحدة فقط هي الوصول إلى الحقيقة، مع إنصاف خصمه وتقدير أدلته وبراهينه ثم نقدها.
بالتالي، نجد في تهافت الفلاسفة للإمام الغزالي، أراد أن يبين استحالة التدليل على زمن لا ينتهي، وأراد أن يبين أن الفلاسفة لا يرون أن الله صانع العالم، وأنهم يعجزون عن إثبات ذلك حسب ما ذهبوا إليه، محاولاً إلزام الفلاسفة أن الله لا يعرف ذاته ولا غيره، ما دام العالم صدر عنه بلا إرادة بل بالضرورة كصدور الحرارة عن النار والنور عن الشمس، وبيّن أن الارتباط بين السبب والمسبب ليس ضرورياً على عكس ما كان يصدح به الفلاسفة، كذلك أنكر مسألة البعث الجسماني الثواب والعقاب الجسمانيين، مُستنداً في هذا إلى ما جاء عن ذلك في الشريعة من نصوص لا تحتمل التأويل تثبت البعث والجزاء الجسمي والروحي معاً، بالتالي، حدد حجة الإسلام في كتابه أغراضه وغايته، وسلك في سبيل تحقيق ما أراد الطريقَ التي ارتضاها ورأى أنَّها تحقق غايته، وحدد ميدان المعركة بينه وبين الفلاسفة.
أما ابن رشد في تهافت التهافت، فقد رد على اتهامات الغزالي مبيناً قصور أكثر أقاويله عن رتبة اليقين والإقناع، فيتناول المسائل التي ذكرها بالتفنيد، كمسألة “قدم العالم” حيث رد على اعتراض الغزالي على أدلة الفلاسفة وكذلك في مسألة “أبدية العالم” يرى أن كتاب الغزالي كان ينبغى أن يسمى “تهافت أبى حامد”، فأراد ابن رشد بكتابه أن يبين تناقض أفكار الغزالي، رغم أن كثير من العلماء قالوا إن هناك تقارباً فكرياً بين الاثنين، لدرجة أننا نشعر في هذين الكتابين أننا أمام مناظرة تجسد تاريخاً من العلم، لكن المشكلة بينهما أنه ليس من السهل على سبيل المثال، أن يقوم دليل عقلي قاطع فيها، إن فيلسوف الأندلس ابن رشد يرى أن أدلة المتكلمين على حدوث العالم، كما حكاها الغزالي ليست برهانية ولا يقينية، وكذلك الأدلة التي حكاها عن الفلاسفة في كتابه “تهافت الفلاسفة” للاستدلال بها على قدمه، ومع هذا وذاك ابن رشد نفسه لم يقدم دليلاً برهانياً يقينياً على ما يدعيه هو والفلاسفة من قدم العالم، وبعد مرور هذه القرون ورغم المسلك الموضوعي الذى اتخذه ابن رشد عند النظر في آراء الآخرين، سواء فيما يتعلق بآراء الغزالي أو الفلاسفة المسلمين أو غيرهم من الفلاسفة، فلم يرفض كل ما قالوه ولم يقبل كل ما قالوه، ويقول ابن رشد في كتابه فصل المقال، عند الرجوع إلى كتب السلف (ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقاً للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرناهم منه وعذرناهم).
بالنتيجة، لا ندّعي علماً لم نختص فيه، لكن إلماماً بتاريخ الطرفين، وتوضيح وجهات النظر بأسلوب سهل يستطيع أي قارئ فهم المشكلة وأبعادها وطرحها والردود عليها، الإمام الغزالي وابن رشد لهما تاريخ كبير في العلوم كافة، ومن المؤكد أن كل واحد منهما أراد إثبات وجهة نظره، بطريقة راقية وحضارية من خلال إثبات الدليل والحجة والمنطق، وعلى من يريد أن يحكم بينهما ويبين أي الآراء هي الأقرب للواقع وللمنطق، دون إغفال المسألة الشرعية في ذلك، الاستعراض في هذا الجانب طويل جداً ولكن قدر الإمكان حاولنا تبسيط الأمر، فالتقارب الفكري واضح بين الشخصيتين، رغم أن عناوين الكتب تبين أنهما أضداد، رغم شدتهما لكنهما كانا مبدعين بحق.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.