ساند الخليفة العباسي المأمون أول برنامج للأرصاد الفلكية، وخلال الفترة (133 هـ – 236 هـ)، كانت الدولة العباسية من السبّاقين في اكتشاف علوم الفلك الهندية والإغريقية، وبإيجاز، لقد كان للعرب والمسلمين في شتى العصور، إسهامات في مختلف الميادين، لعل ما يهمنا منها اليوم في جزئنا الثاني علم الفلك، أو علم الهيئة قديماً، فلم يكتفوا بدراسة هذا العلم، بل بنوا المراصد واخترعوا الآلات، وطوّروها في سبيل فهم هذا العلم، ورصدوا بها الكواكب والنجوم، ورسموا لها الخرائط وعيّنوا مواقعها.
قال تبارك وتعالى: (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر وقد فصلنا الآيات لقوم يعلمون).
لا غريب عن العرب في مختلف الحضارات المتعاقبة اهتمامهم بالعلم والعلماء، وخاصة علم الأفلاك والأجرام السماوية، فهناك مرصد في حي الشماسية في بغداد، وآخر في جبل قاسيون بدمشق، وفي جبل المقطم قرب القاهرة، ولعل أهم من كتب في علم الفلك دون منازع كان أبو الريحان البيروني، وتعد كتاباته في هذا المجال من الكتب المطوّلة المستقصى فيها كل علم، والمثبتة لجميع ما جاء فيها بالبراهين الهندسية المتضمنة كافة الجداول العديدة ومن هذه الكتب القانون المسعودي، إلى جانب ذلك، لا بد من ذكر أن البيروني كان أيضاً من علماء الرياضيات وله كتب في التاريخ وعلم المعادن والصيدلة وفقه اللغة.
البداية مع التنجيم
في كتاب “التفهيم لأوائل صناعة التنجيم”، أي فهم مبادئ علم الفلك، كتب على شكل أسئلة وإجابات ويعتبر كدليل أو كتيّب، كان يحوي عن مبادئ علم الفلك إضافة إلى الهندسة والجبر، ويعتبر هذا الكتاب مقدمة ممتازة إلى علم الفلك والتنجيم الإسلامي في العصور الوسطى وهو مصدر شديد الأهمية في تعريفات المصطلحات الفنية في ذلك المجال، إلا أن أهم مصنفات البيروني في علم الفلك كان كتاب القانون المسعودي، يستخدم لفظ “القانون” في عنوان الكتاب وفي ذلك إشارة واضحة إلى جداول بطليموس المسماة بالقانون في المصادر العربية ومن ثم فإن عمل البيروني هو عبارة عن زيج (مجموعة من الجداول الفلكية) رغم أن محتواه يزيد عن الموجود في الزيج العادي بل هو نسخة محدثة من المجسطي لبطليموس. المجلد مُقسم إلى أحد عشر مقالة (مقالات) تتناول الكوزمولوجيَا والتسلسل الزمني وعلم حساب المثلثات (بما في ذلك النظريات الجديدة التي وضعها البيروني ورفاقه) وعلم الفلك الكروي والجغرافيا الرياضية وحركة الشمس والقمر والكسوف والخسوف ورؤية الهلال والنجوم الثابتة والكواكب وعلم الفلك الرياضي. كانت المبادئ الأساسية مبنية على نظام بطليموس ولكن القانون اشتمل على معلومات متعلقة بالثقافات الإسلامية الجديدة، وأضاف العديد من التصويبات نتيجة للملاحظات التي رصدها البيروني وأسلافه. ونظراً لأن العديد من المصادر المستخدمة قد فقدت في وقتنا هذا، يبقى كتاب القانون منجماً من المعلومات عن تاريخ علم الفلك الإسلامي حتى القرن الحادي عشر.
كان البيروني أكثر العلماء إلماماً بتاريخ الحضارة الإسلامية، حيث نذر حياته كلها في البحث العلمي رغم تنقله الكثير طوال حياته. فهذا القانون المسعودي هو المساوي في العصور الوسطى للمجسطي لبطليموس، الذي طوقته أعمال التحليل والنقد في العالم الإسلامي ما بين القرن الثاني للهجرة والقرن الخامس للهجرة ، وهو يمثل ذروة هذا المجال. (1)
وأنا أقرأ للعلماء العرب المسلمين قديماً وأركز على التواريخ والقرون، والقِدم، خاصة في التقدم العلمي في مختلف الميادين، عندما كانت حضارتنا الإسلامية في أوج عطائها، لم يكن هناك من نهضة غربية، اللهم إن قلنا اليونان، لكنها لم تكن حضارة غربية آنذاك، بل كانت مركز المدارس الفلسفية، ما لفتني أن هناك من يتغنى بالحضارة الغربية وبنهضتها، ولا ننكر ذلك، لكنها أتت بعد حضارتنا بأشواط، مع الإشارة إلى أن الفتوحات الإسلامية وصلت إلى أماكن بعيدة جداً، وتزاوجت العلوم، وهذا أمر طبيعي، إن وجد عالم عربي أخذ عن غربي فهو لا ينكر، أما الغرب يريدون نسب كل العلوم لهم، وهذا غير صحيح.
أطلق المستشرقون على البيروني، اسم بطليموس العرب، البيروني أيها السادة هو الذي وضع حجر الأساس بالنسبة لاكتشاف الجاذبية، حيث قال إن للأرض خاصية جذب الأجسام نحو مركزها، وتناول ذلك في آراء نشرها في كتب مختلفة، ولكن أشهر آرائه بهذا الخصوص ضمّنها كتابه “القانون المسعودي”، مما ساعد نيوتن فيما بعد بالتطوير من نظريات البيروني ووضعها بشكل تفصيلي، هذا تحديداً ما أقصده، الجميع اليوم يعتقد أن نيوتن وغيره من العلماء هم أصحاب الاختراعات، في حين أننا عرفناها منذ قرون، ليس هذا فقط، البيروني وضعا طرقاً لقياس نصف قطر الأرض، وتوقع وجود قارة أو أكثر في المساحة المائية التي تفصل بين قارتي آسيا وأوروبا، بناءً على افتراضات علمية ناتجة عن حساباته الدقيقة لقطر الأرض وتقديره لمساحات قارات العالم القديم. تم التأكد من صحة توقعه فيما بعد عند اكتشاف القارتين الأمريكيتين، أي قبل كريستوف كولومبوس، قال تبارك وتعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور)، تأمل معي مكانة العالم عند الله سبحانه وتعالى، هذه المكانة العظيمة التي خص بها العلماء ومنحهم الذكاء، فهل هي صدفة أن يكونون من أصحاب المراتب العليا، هذا هو ديننا الذي يقدّر العلم والعلماء ويدعمهم.
البيروني ناقش مسألة ما إذا كانت الأرض تدور حول محورها أم لا، (سبق بذلك العالم غاليليو وكوبرنيكوس)، لا عجب أنه الآن على سطح القمر، حيث سُميت فوهة بركانية على سطح القمر باسمه إلى جانب 300 اسم لامع تم اختيارها لتسمية الفوهات البركانية على القمر ومنها الخوارزمي وأرسطو وابن سينا، قال تبارك وتعالى: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون).
البيروني نفى نظرية بطليموس بثبات الشمس، وقام بمهاجمة فيزياء أرسطو للأجرام السماوية بشكل متكرر، وقال بأن الخلاء الفيزيائي قابل للوجود من خلال مبادئ التجربة، كما أنه يقول بضعف حجة أرسطو في مسألة المدارات الإهليجية لأنها سوف تولد الخلاء، وتم استخدام بيانات الكسوف للبيروني حديثاً من قبل “دانثرون” عام 1749، لتحديد تسارع القمر، كما تم إدخال كتبه وعلومه في السجلات التاريخية الفلكية وما زالت تُستخدم إلى وقتنا هذا.
قال تبارك وتعالى في محكم كتابه العزيز: (فلا أقسم بمواقع النجوم إن لقسم لو تعلمون عظيم).
أخيراً، بدون أدنى شك، إن العلماء العرب والمسلمين هم أول من اشتغل في علم الفلك فكتبوا الكتب والمصنفات كثيرة في ذلك، ونهض هذا العلم على أيديهم، وكان لنظرياتهم الأثر الكبير في إثراء هذا العلم والبناء على ما توصلوا إليه من نتائج وكشوفات، فلهم الفضل في تقدم أبحاث الفلك والفضاء، في وقتنا الحاضر، وهذا يدل على دورهم الكبير في نهضة الكثير من العلوم والمعارف التي قدموها للحضارة الإنسانية جمعاء.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان
المصادر والمراجع:
انظر: البيروني: البيروني: ذروة في تطوير علم الفلك الإسلامي – الأستاذ خوليو سامسو – 2014.