أكبر إنجاز حققته المقاومة الفلسطينية أنها حولت أطفال الحجارة إلى جنود مقاتلين، وحولت الحجارة إلى صواريخ وطائرات مسيرة، فخلال الحرب الصهيونية الأخيرة على غزة، أطلقت الفصائل الفلسطينية ما يزيد على 4 آلاف صاروخ تجاه مدن جنوب ووسط فلسطين المحتلة، أسفرت عن مقتل 12 إسرائيلياً وإصابة نحو 330 آخرين، حسب قناة «كان» الرسمية، وتسبّبت هذه الصواريخ في إدخال ملايين الإسرائيليين الملاجئ، وتعطيل حركة القطارات، وتعليق هبوط وإقلاع الرحلات الجوية لفترات بمطار بن جوريون الدولي بتل أبيب، فظهرت واضحةً قدرة فصائل المقاومة الفلسطينية المذهلة على تطوير سلاحها، وأصبحت المقاومة تهدد الكيان الصهيوني بالانتقام بقصف تل أبيب ردًا على أيّ عملية اغتيال إسرائيلية تستهدف المقاومة الفلسطينية في أيّ مكان وزمان، وصارت تراقب عن كثب مدى التزام إسرائيل بوقف إطلاق النار في غزة وسلوكها بالقدس وحي الشيخ جراح؛ وهو تهديدٌ واضحٌ يعبّر عن مدى الثقة التي وصلت إليها المقاومة.
وإذا كان تحويل الحجارة إلى صواريخ، رغم الحصار الشديد على قطاع غزة، وإذا كانت موازين المعارك قد اختلفت الآن عن السابق، فإنّ هناك من يتساءل: كيف انتصرت حماس؟ وهو سؤالٌ يتكرر مع كلِّ معركة بين الجانبين. والواقع يؤكد أنّ الطرف الإسرائيلي هو أكثر الأطراف التي أكدت الهزيمة الإسرائيلية، وظهر ذلك من تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، وكذلك افتتاحيات الصحافة الإسرائيلية التي شنت هجومًا شديدًا على أداء الجيش الإسرائيلي، رافضين وقف إطلاق النار، وبأنّ القرار كان اعترافًا إسرائيليًا بالهزيمة أمام حماس، التي سجلت في هذه الحرب أداء سياسيًا وعسكريًا مميزًا؛ وهو ما أشار إليه رون بن يشاي، الخبير العسكري الإسرائيلي بأنّ «الأهداف الاستراتيجية للحرب على غزة لم تتحقق، ورغم ضراوتها لكنها لم تنجح بإقامة ردع ثابت وطويل الأمد للمنظمات المسلحة، التي باتت قيادتها قريبة من تزعم المنظومات السياسية والوطنية والدينية للفلسطينيين أينما كانوا، بما في ذلك 48»؛ فيما شن جدعون ساعر الوزير السابق في حكومة نتانياهو هجومًا عليه، بسبب وقف إطلاق النار، قائلا في تغريدة: «إنّ وقف إطلاق النار دون فرض قيود على حماس وإعادة الجنود والمدنيين فشلٌ سياسي يدفع ثمنه بالفائدة في المستقبل»، ورأى أنّ وقف القتال من جانب واحد سيكون ضربة خطيرة للردع الإسرائيلي.
في تحليل تحت عنوان «أسباب انتصار المقاومة على إسرائيل في حرب غزة» نشره موقع «عربي بوست» يوم 21 مايو 2021، ذكر الموقع أنه حتى تتضح صورة نتائج هذا الانتصار الذي حققته فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وعلى رأسها حماس، يجب مقارنة المشهد الفلسطيني الداخلي والخارجي اليوم بما كان عليه قبل 11 يومًا فقط من بداية المعارك؛ فقد عادت القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد ليس فقط في الشرق الأوسط، ولكن على مستوى العالم؛ فالآن بات واضحًا أنّ «صفقة القرن»، التي تصدّرت المشهد طوال السنوات الأربع الماضية، وما نتج عنها من تطبيع، قد دُفنت إلى غير رجعة. فقد توحّد الفلسطينيون جميعًا في الأراضي المحتلة وقطاع غزة وفي الشتات مرةً أخرى خلف القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطين وعاصمتها القدس.
إنّ ذلك الصمود، يأتي في المرتبة الأولى في تغيير صورة المقاومة في العالم، ثم إنّ وسائل التواصل لعبت دورًا أساسيًا في إظهار الصورة الحقيقية للعالم لما جرى في غزة، حتى وصل الأمر – لأول مرة في التاريخ – أن تنشر صحيفة «نيويورك تايمز» صور وأسماء الأطفال الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل، تحت عنوان «كانوا مجرد أطفال»، كما شاهدنا مظاهرات تأييد للفلسطينيين في العواصم الغربية.
من المفارقات ونحن أمام صمود المقاومة الفلسطينية، وأمام الاعتراف الإسرائيلي بتطور قدرات المقاومة، فإنّ هناك من العرب من هم أكثر صهيونية من الصهاينة أنفسهم، فهم لم يقولوا خيرًا ولم يصمتوا، فانبرى البعض شامتًا في حماس، كما فعلوا ذلك من قبل مع حزب الله، والحجةُ أنّ حماس فرعٌ من جماعة الإخوان، وأنّ إيران هي التي تدعمها. ومسألة دعم إيران حقيقة لا تُخفى لا من قبل حسن نصر الله ولا من قادة حماس، إذ شكر إسماعيل هنية إيران علنًا في خطاب النصر، وقال: «إنّ إيران هي التي تمدّنا بالمال والسلاح»، ودعمُ المقاومة في الأصل واجبٌ على العرب والمسلمين، فإذا كانت الأنظمة العربية تعارض الدعم الإيراني للمقاومة العربية في لبنان وفلسطين، لماذا لا تقدّم هي هذا الدعم؟! ولم تكتف هذه الأنظمة بعدم دعم المقاومة والصمت، بل قادت حملة تشويه للمقاومة ولإسماعيل هنية، فروّجت فاتورة واضحة التزوير باسم هنية، بأنه سكن جناحًا ملكيًا في أحد فنادق الدوحة بمبلغٍ وقدرُه، في وقت كان الشعب الفلسطيني يُقتل بوحشية في غزة، وكأنّ بهم غيرة على أهل غزة. وأنا أذكر أنّ أحد الكويتيين كتب مقالا في شهر يناير 2020، ذكر فيه أنه شاهد أحدًا في الدرجة السياحية لإحدى الطائرات، لم يكن غريبًا عليه، فاقترب منه وسأله من تكون؟ فقال له أنا إسماعيل هنية ذاهبٌ إلى مسقط لأقدّم التعازي في وفاة السلطان قابوس، كان بسيطًا في ملبسه، وركب الدرجة السياحية، ولم يكن عنده مرافقون.
ومن أعجب ما شاهدت، خطابٌ ناري لمحمود الهبّاش قاضي قضاة فلسطين يقول فيه: «إنّ إنهاء حكم حماس لقطاع غزة هو فريضة شرعية وضرورة وطنية، ويجب أن نحرر القطاع من هذا العار الذي جلبته حماس، التي أصبحت أداة رخيصة بيد إسرائيل وأمريكا، تنفذ صفقة القرن بمنتهى البشاعة والوقاحة»، ومحمود الهباش هذا متهمٌ أساسًا بالفساد، حيث سبق لفضائية «الأقصى» التابعة لحماس أن عرضت مساء الأحد الثالث من فبراير 2014، ملفات فساد مالي له، قالت الفضائية: إنها حصلت عليها من أحد مقربيه، تكشف عمليات اختلاس أموال بشكل نقدي وعيني. ونحن لا تهمنا هذه التفاصيل، لأنها تدخل ضمن صراع الطرفين، ولكن ما يهمنا هو أن نشاهد خطابًا كهذا، في وقت نرى فيه أنّ حماس شرّفت الأمة بصمودها وتمسكها بالثوابت الدينية والوطنية. ونكتةُ الموسم أن يقول أحدٌ: «إنّ حماس أصبحت أداة رخيصة بيد إسرائيل وأمريكا، تنفّذ صفقة القرن، بمنتهى البشاعة والوقاحة»، ولا أدري ماذا ترك للآخرين الذين ينفّذون الأجندة الإسرائيلية نهارًا عيانًا؟
كان على الهباش أن يقرأ تصريح آفي ساخاروف، خبير الشؤون الفلسطينية والعربية المنشور في موقع «والا» العبري بتاريخ 25 من مايو 2021 الذي قال فيه: «إنّ من حق حركة حماس أن تفتخر بما فعلت في معركة سيف القدس، بعد أن أحرقت «المدن الإسرائيلية» والمستوطنات مقابل عدم مقدرة جيش الاحتلال الوصول إلى قادتها. فقد حققت حماس ما لم يكن يتوقعه أحد، إذ حرّكت جبهات كثيرة، من بينها جبهة جنوب لبنان، حيث أطلقت من هناك صواريخ باتجاه الأراضي المحتلة، كما وأطلقت صواريخ من سوريا، واستطاعت إشعال الضفة المحتلة». وبحسب ساخاروف فإنّ حماس تحولت إلى شبح عسكري، واليوم تضاهي حزب الله في قوتها، وقادرة على إحراج «إسرائيل» وإذلالها مرارًا وتكرارًا، وهو ما ضاعف من شعبيتها في الشارع الفلسطيني.
لقد فطن سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة، – وهو الذي أبلى بلاء حسنًا في تأييد الحق – للمؤامرات التي تحاك ضد المقاومة الفلسطينية، فغرّد يوم الأربعاء الثاني من يونيو 2021، «أنه كان للنصر العزيز الذي حققته المقاومة الإسلامية، أثرٌ كبيرٌ على العدو وعلى أوليائه الذين في قلوبهم مرض؛ لذلك يسعون جميعًا إلى إجهاض هذا النصر، بإثارة الشقاق والخلاف والتحزب في صفوف المقاومة ومن يساندها من المؤمنين، بإثارة النعرات الطائفية».
العالم لا يحترم إلا القوي، ولا يحترم إلا من يتمسك بمبادئه، وهذا ما فعلته المقاومة الفلسطينية التي أثبتت نفسها أولا، ثم تبع ذلك، التعاطف العربي والإسلامي والعالمي، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي تركت بصمات واضحة في تغيير الصورة النمطية التي تصف الفلسطينيين أنهم إرهابيون، وقد تجاوزت نتائج الإعلام البديل قدرة الإعلام الرسمي الآن بمراحل. ولكي تستمر الشعلة، لا بد أن يواكب صمود وانتصار غزة العودة إلى المصطلحات التي اختفت من الإعلام العربي، بسبب الهرولة إلى إسرائيل والتطبيع معها، مثل كلمات المجاهدين والمناضلين والمغاوير والأبطال، ويجب أن تسمى الأشياء بمسمياتها الحقيقية، مثل فلسطين المحتلة، والعدو الصهيوني، والقدس عاصمة فلسطين، وغيرها من الكلمات، لأنّ تأثير هذه المسميات على الأجيال تأثير قوي. ولا سبيل إلى تحقيق النصر إلا بالصمود والمقاومة.
بقلم: زاهر بن حارث المحروقي جريدة عمان. 06 يونيو 2021.