تنبه علماء القانون في الغرب لعظمة الشريعة الإسلامية ومعرفتها الدقيقة بحاجات المجتمعات منذ وقت بعيد وتلبيتها في ذات الوقت، وتوالت كتاباتهم وتعالت صيحاتهم للإشادة بالقوانين المستمدة من الإسلام، خاصة مع حرص الإسلام على النفس الإنسانية وحمايتها، في وقت كان الإنسان الغربي يعاني أسوأ الظروف من بؤس ومعاملة سيئة.
كتب الأستاذ سيد عبدالله علي حسين، من علماء الأزهر الشريف وحاصل على “ليسانس في الحقوق الفرنسية”، كتاباً بعنوان “المقارنات التشريعية بين القوانين الوضعية المدينة والتشريع الإسلامي” الجميل جداً، وهو دراسة أكاديمية علمية مقارنة، أتمنى من كل باحث أن يقرأ هذا الكتاب لما له من قيمة عالية.
هذا الكتاب، مقارنة بين فقه القانون الفرنسي ومذهب الإمام مالك بن أنس، رضي الله عنه (1)، وأي إنسان باحث او قارئ لتاريخ القانون الأوروبي، “الوضعي والمدني” كله، يجد بأن الفقه الإسلامي موجود بكل القوانين الوضعية الأوروبية، وخاصة القانون الفرنسي، ويرجع السبب في ذلك لأنهم تأثروا بثقافة الأندلس التي كانت حضارة زاخرة بالعلوم، وفيها الكثير من الفلاسفة والمفكرين، ونجد أن الكثير من الأفكار المنسوبة للغرب، هي في حقيقتها مقتبسة من المسلمين، لكن المسلمين اليوم مع الأسف أصبحوا انهزاميين، تجدهم يتنكرون وينبهرون في الغرب، ولا يقرأون تاريخهم، وتاريخ حضارتهم.
لو قرأوا التاريخ خاصة أولئك الذين يتفاخرون بالقانون الفرنسي وبالقوانين الوضعية، لاكتشفوا أصل المعلومات، لكن مع الأسف “أمة لا تقرأ”، لذلك، هذه الدراسة التي وضعها الأستاذ حسين، نجد فيها العجب، حتى أنه استعان بكلام الفيلسوف والمؤرخ العظيم “غوستاف لوبون” (2)، صاحب كتاب حضارة العرب، حيث تكلم عن الجنرال الفرنسي نابليون بونابرت (3)، عندما عاد من مصر في العام (1801)، وكيف أخذ معه كتاب “مختصر الخليل” من كتب الأزهر الشريف المهمة، حيث كان بونابرت حريص على اقتناء كتب الفقه المالكي، لأن في العهد الأندلسي كانت الأدوات رائعة خاصة في طريقة التبويب والكتابة وتوزيع الكتب الفقهية (بيوع ومعاملات، زواج، الطلاق) في ترتيب أكاديمي تُرفع له جميع القبّعات، هذا الترتيب غير موجود بأي ديانة من الديانات الأخرى، حتى في فقه المذاهب الأخرى، مع كل الاحترام للمذاهب الإسلامية الأخرى، فلدى الشافعية كتب كثيرة ورائعة، لكن يمتاز الفقه المالكي بالترتيب والتبويب، والأندلس كانت مشهورة بتلك الحقبة في هذه الطريقة من تبويب وتوزيع الأحكام.
لذلك، انبهر الأوروبيون بشكل كبير جداً، حتى بعض القساوسة والعلماء أخذوا واقتبسوا من هذه الطريقة، وقدموها للناس على أن هذا القانون هو “القانون المدني”، هذا يأخذنا إلى المستشرق النمساوي “ألفرد فن كريمر” (4) الذي كان قنصلاً في القاهرة وبيروت، ونشر أكثر من عشرين كتاب بالعربية، وأخرى غيرها باللغة الألمانية، تكلم فيهم عن الثقافة الإسلامية، لا بل تغزل بها، وكتب عن فضل الفقه الإسلامي وخصائصه من الناحية القانونية، وكان يقول إن الفقه الإسلامي هو أعظم عمل قانوني في تاريخ العالم، هذا الأمر يدلل على أن الأفكار العربية والإسلامية رحلت بطرق مختلفة إلى الغرب ومن أهلها أنفسهم وثقوا ذلك، والمتخصص يعلم عند قراءته للتاريخ حقيقة هذا الأمر، هذه الكتابات من فم الغرب أوضحت التأثير الغربي بالكتابات العربية والإسلامية، هذا الأمر متاح لكل من يريد أن يقرأ ويقارن وتحديداً تاريخ القانون والتدوين عند العرب والمسلمين، ومن ثم إقرأ تاريخ التدوين عند الأوروبيين، والفرنسيين بشكل خاص، تجد كتابات الكثير من الغربيين توثق لك، كالمؤرخ الفرنسي “لوي سديو” (5) الذي يؤرخ عن الاقتباسات التي اقتبسها نابليون بونابرت عن كتاب الأزهر “المختصر الخليل”، في كتابه “ملخص تاريخ العرب”، يوضح فيه أن الكتاب الفقهي الذي أخذه بونابرت يبنى عليه القانون الفرنسي الذي كان أحد أهم أسباب نهضة الدولة الفرنسية، ليكون الفقه الإسلامي والمالكي تحديداً أثر كبير جداً في التشريع الفرنسي.
وأما كتاب سيد عبدالله احب كتاب المقارنات التشريعية، يتكلم كلاماً تفصيلياً، ويذكر كلام أستاذ القانون الدولي بمعهد الدراسات الدولية ميشيل دي توب (6) الذي تكلم عن تأثير الروح الإنسانية والخلقية التي جاء بها الإسلام وتجسدت في الفلسفة الفقهية على أوروبا والعصر الوسيط، ويذكر معاناة البشرية آنذاك التي كانت في بؤس وتعاسة، ويوضح تأثير القواعد التشريعية الإسلامية آنذاك، وتأثيرها على القانون، وكذلك المؤرخ الانكليزي “هربرت جورج ويلز” (7) الذي يعترف في كتابه “معالم التاريخ الإنساني” أن أوروبا “مدنية الإسلام”، والجانب الأكبر من قوانينها الإدارية والتجارية، ويردف ويلز أيضاً أن تأثير الفقه الإسلامي في أوروبا، بدأ مع الفتوحات الإسلامية لبلاد الأندلس، ويرجع الفضل ذلك إلى “البابا سيلفستر الثاني” (8) الذي كان مولعاً بالحضارة الإسلامية وعلومها، حيث ذهب إلى الأندلس وهو في السابعة عشر من عمره، وتلقى العلم بمدارس قرطبة وإشبيلية ولفت نظره الفقه المالكي، وطريقة التبويب والترتيب، واعتنى بذلك عناية فائقة وانكب على دراسته لسنوات طويلة، ورجع إلى فرنسا محملاً بهذا الفقه وأصوله ، لكن سيلفستر الثاني قدمه على أنه قانون روماني جديد.
وبالتالي، هذه هي الثقافة الأوروبية، يقتبسون ويكتبون بطريقتهم المبسطة، ما يعني أنهم لا يأخذون النص بحرفيته، بل يقتبسون روح النص ومنهجيته ويكتبونه بطريقتهم، على سبيل المثال، مقولة الخليفة عمر بن الخطاب (9) “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”، يأخذون النص ويقولون إن الإنسان حر بطبيعته ولا عبودية اليوم، إن روح النص حاضرة وإن تم استبدال الكلمات، ويأخذون مقولة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام (10)، “الإنسان إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”، ويبنون عليها تشريع خاص معين، ويقولون من عندنا خرجت الحضارة والثقافة ومكانة الإنسان، وبالتالي هذه المقولات حتى تلك المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو صحيحة قالها النبي، فهي روح الإسلام، حتى فقه الإمام مالك بن أنس كله أقوال للنبي وأفعاله، وهذه كلها كما في قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).
من هنا، عندما نقرأ التاريخ الأوروبي، والتاريخ الفرنسي تجد أنه منسجم مع الفطرة، لكن عناد البعض اليوم تغير حقيقة أصل هذا التاريخ فقط لانبهارهم بالثقافة الأوروبية ككل، وأن فرنسا أم التشريعات، نقول إن شريعتنا جيدة جداً ومنسجمة مع الفطرة والدليل عندما نقرأ الثقافة الغربية الفرنسية وتاريخها والقانون الوضعي الخاص بهم، ونجد كيف أثرنا كمسلمين عليهم ولم نكن مبالغين عندما قلنا إننا أسياد الدنيا وما فيها، وعلمنا الناس ولا مبالغة بالقول إنا أخرجناهم من الظلمات إلى النور، وهذا موثق بتاريخ أوروبا حتى على مستوى الطهارة والنظافة وهنا ليس من باب تهكم أو ازدراء فالحمامات عرفوها لأول مرة من الحضارة الإسلامية في الأندلس، وكان المسلمين بين الناس كالشامة لشدة النظافة والعطور وغير ذلك.
عندما ذكرت مسألة الفقه وتدوينه في زمن الأندلس، كان الفقه يدون بطريقة حرفية، ولا ننكر تأثر المسلمين بكثير من الحضارات الأخرى الرومانية والفارسية وغيرها، واقتبسوا منها الإيجابيات ودونوها، فمسألة التبويب في الإسلام تم أخذها عن الفرس، العرب كانوا يحفظون لكن لا يكتبون، وبالتالي وصل الفقه إلى مرحلة النضج العقلي بطريقة التدوين والمدونات والشروح وذلك لحرص المسلمين على دينهم، فالمشرع دائماً ما يسأل عن البيوع وعن الحلال والحرام والعقود وكل المعاملات، بما فيها الاتفاقيات التجارية اللفظية والتربية والتعليم، كل هذه الأمور مدونة بكتب الفقه، وعند قراءة الفقه المالكي تجدون تفصيل التفصيل لكل مسألة من المسائل الإسلامية، وهذه كلها معاملات وعبادات وكلها لها علاقة بالتشريع.
كل الغرب يعرف مكانة الإسلام، لذلك تجدون هذه الهجمة المسعورة عليه، خصوصاً من فرنسا التي لديها ردة فعل ودائمة الرغبة بالانتقام من العرب والمسلمين، خاصة مع جلائهم عن بلاد الأمة حتى خلال العصر الحديث ولا بلد يحمل ذكرى إلا سيئة عنهم، ففي عهد الخديوي اسماعيل، (11) وقدري باشا (12) أواخر القرن التاسع عشر، كان هناك كاتب كبير اسمه مخلوف الميناوي (13) لديه كتاب أكثر من رائع ودراسة هي مقارنة بين القانون الفرنسي والتشريعات الإسلامية، وكل الدراسات الحديثة بنيت بعد هذه الدراسة.
بالمحصلة، لا تستشهدون فقط بكلام المسلمين والعرب، بل إقرأوا أيضاً للغرب واحتجوا عليهم بكتبهم هم، فكتب المؤرخين والمستشرقين الذين ذكرتهم أمثال غوستاف وكريمر مهمان لتوثيق المعلومات، هذا ما ستجدونه عند قراءة القانون الفرنسي المدني خاصة بمقارنة مع الفقه المالكي الإسلامي لوجد عجب العجاب، هذا يزيدنا فخراً بديننا وعقائدنا وكتبه الفقه خاصتنا، نحن علمنا العالم، ويجب الاعتزاز بثقافتنا وموروثنا التي أثرنا فيها على العالم حتى من الناحية الفلسفية، كما حدث مع ديكارت (14) الذي أبهر الجهلاء وهو مستقٍ معلوماته من كتاب حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي (15) “المنقذ من الضلال” الذي وجد في مكتبته الخاصة، وعندما نقرأ نعرف كيف أثر ابن رشد (16) بالحضارة الأوروبية من الناحية العقلية وابن سينا (17) بالطب، وأبو الريحان البيروني بالفلك (18)، وبالتالي نحن صنّاع الحضارة أثرنا كثيراً رغم أنف الحاقدين، وجمال الإسلام أنه عالمي، فهذه المقاربة البسيطة التي قمت بها فقط كي أوصل للناس بأننا ديننا ليس متخلفاً بل دين فطرة منسجم مع فطرة الإنسان، لكن ربما وبكل صراحة يكون الغربي أفضل منا تسويقاً للفكر الإسلامي الذي ينسجم مع حرية الإسلام ومعتقد وصون كرامة الإنسان.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان
انظر:
- مالك بن أنس: أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي الحميري المدني. (93-179هـ / 711-795م) فقيه ومحدِّث.
- غوستاف لوبون: (7 مايو /أيار 1841 – 13 ديسمبر/كانون الأول 1931) (بالفرنسية: Gustave Le Bon) طبيب ومؤرخ فرنسي.
- نابليون بونابرت: قائد عسكري وسياسي فرنسي إيطالي الأصل (1769 – 1821).
- ألفرد فن كريمر: مستشرق نمساوي (1828 – 1889).
- لوي بيير أوجين سديو: مستشرق فرنسي (1808 – 1875).
- ميشيل دي توب: أستاذ القانون الدولي بمعهد الدراسات الدولية بلاهاي.
- هربرت جورج ويلز: مؤرخ انكليزي وروائي وكاتب قصص قصيرة بريطاني (1866- 1946).
- البابا سيلفستر الثاني: باب فرنسي، البابا الوحيد الذي تعلم العربية وأتقن العلوم عند العرب (946 – 1003).
- عمر بن الخطاب: أبو حفص عمر بن الخطاب العدوي القرشي، المُلقب بالفاروق، هو ثاني الخلفاء الراشدين (585 – 644).
- علي بن أبي طالب: أبو الحسن علي بن أبي طالب الهاشمي القُرشي ابن عم الرسول محمد بن عبد الله وصهره، من آل بيته، وأحد أصحابه، هو رابع الخلفاء الراشدين (599 – 661).
- خامس حكام مصر من الأسرة العلوية (1830 – 1895).
- محمد قدري باشا قانوني مصري تركي الأصل من رجال القضاء في مصر، له مؤلفات في الفقه الإسلامي (1821 – 1886).
- كاتب مصري في عهد الخديوي اسماعيل.
- ديكارت: رينيه ديكارت ، فيلسوف، وعالم رياضي وفيزيائي فرنسي (1596 – 1650).
- أبو حامد الغزالي: أبو حامد محمد الغزّالي الطوسي النيسابوري الصوفي الشافعي الأشعري، أحد أعلام عصره وأحد أشهر علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري (1058 – 1111).
- ابن رشد: أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد يسميه الأوروبيون Averroes واشتهر باسم ابن رشد الحفيد هو فيلسوف وطبيب وفقيه وقاضي وفلكي وفيزيائي عربي مسلم أندلسي، (1126 – 1198).
- ابن سينا: أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا البَلْخيّ ثم البُخاريّ المعروف بابن سينا، عالم وطبيب مسلم، اشتهر بالطب والفلسفة (980 – 1037).
- البيروني: أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني هو باحث مسلم كان رحالة وفيلسوفاً وفلكياً وجغرافياً وجيولوجياً ورياضياتياً وصيدلياً ومؤرخاً ومترجماً. وصف بأنه من بين أعظم العقول التي عرفتها الثقافة الإسلامية، (973 – 1048).