في العصور الوسطى، كانت القوانين الوضعية وإلى ما قبل الثورة الفرنسية تجعل الإنسان، محلاً للمسؤولية الجنائية، إذ يُعاقب الإنسان على ما ينسب إليه من أفعال محرمة، في هذا الجزء سنبحث المسؤولية الجنائية ودرجاتها، والقصد الجنائي، والأفعال المتصلة بالجريمة وعلاقتها بالمسؤولية.
قديماً كان الإنسان مسؤولاً جنائياً عن عمله، سواء كان رجلاً أو طفلاً مميزاً أو غير مميز، وسواء كان مختاراً أو غير مختار، مدركاً أو فاقد الإدراك، هذه النقطة غاية في الأهمية، لأنها تبيّن دور القوانين الوضعية في تغيير القوانين تبعاً للزمان والمكان، فما كان صالحاً منها قديماً، لا يعمل في وقتنا الحالي، فلقد كانت العقوبات قديماً، يترك للقضاة اختيارها وتقديرها، فكان الشخص يأتي الفعل غير محرم من قبل، فيعاقب عليه إذا رأى صاحب السلطان أن فعله يستحق العقاب، ولو لم يكن عوقب أحد من قبل على هذا الفعل، ولو لم يكن الفعل أُعلن تحريمه من قبل. وكانت العقوبات على الفعل الواحد تختلف اختلافاً ظاهراً؛ لأن اختيار نوعها وتقدير كمها متروك للقاضي، فله أن يعاقب بما شاء وكما يشاء دون قيد ولا شرط.
هذه هي بعض المبادئ التي كانت القوانين الوضعية تعتمدها، و ترجع في أساسها إلى نظرية المسؤولية المادية التي كانت هي المتحكمة في هذا الشأن، والتي تنظر إلى الصلة المادية البحتة بين الجاني والجناية، وبين الجاني وغيره من أهله والمتصلين به، وبقيت هذه المبادئ سائدة في القوانين الوضعية حتى جاءت الثورة الفرنسية ووضعت مكانها مبادئ جديدة، تقوم على أساس العدالة وعلى جعل الإدراك والاختيار أساساً للمسؤولية، فأصبح الإنسان الحي وحده هو محل المسؤولية الجنائية، وأصبحت العقوبة شخصية لا تصيب إلا من أجرم ولا تتعداه إلى غيره، ورفعت المسؤولية عن الأطفال الذين لم يميزوا، ووضعت عقوبات بسيطة للأطفال المميزين، وارتفعت المسؤولية عن المُكرَه وفاقد الإدراك، وأصبح من المبادئ الأساسية في القوانين أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون، وأن لا عقوبة إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القوانين، وقيدت حرية القضاة في اختيار العقوبة وتقديرها.
بالنسبة للشريعة الإسلامية بهذا الخصوص، لقد حددت الشريعة أن المسؤولية لا تقع إلا على الشخص المكلّف، ودون ذلك هو غير مسؤول، فإذا مات مثلاً تسقط المسؤولية عنه، والشريعة تُعفي الأطفال إلا إذا بلغوا الحلم مما لا يعفى من الرجال، لقوله تعالى: (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم)، ومن القواعد الأساسية في الشريعة الإسلامية، (لا تزر وازرة وزر أخرى)، فلا يسأل الإنسان إلا عن جنايته، ولا يؤخذ بجناية غيره مهما كانت صلته به، كذلك من القواعد الأساسية في الشريعة الإسلامية أن كل ما لم يحرم فهو مرخص لا عقاب على إتيانه، فإذا حرم فالعقوبة من وقت العلم بالتحريم، أما ما قبل ذلك فيدخل في قوله تعالى: (عفا الله عمّا سلف)، وليس للقضاة في الشريعة الإسلامية أي شيء من الحرية في اختيار العقوبة أو تقديرها في جرائم الحدود والقصاص، أما في التعازير فلهم حرية مقيدة، لهم أن يختاروا العقوبة من بين عقوبات معينة، ولهم أن يقدروا كمية العقوبة إن كانت ذات حدين بما يتناسب مع ظروف الجريمة والمجرم، ولكن ليس لهم أن يعاقبوا بعقوبة لم يقررها أولو الأمر، ولا أن يرتفعوا بالعقوبة أو ينزلوا بها عن الحدود التي وضعها أو يضعها أولو الأمر، وهذا أمر معمول به قبل أن تعرفه الشعوب الأخرى خاصة الغربية والذي هو حديث نسبياً مقارنةً بعلم وتطبيق الشريعة الإسلامية له.
وهنا أكرر للضرورة، قد تكون أحكام الشريعة في بعض القضايا تحتاج إلى تدخل من بعض الجهات الدينية تخفيفاً أو العكس، هنا أشدد على وجود هيئات دينية تشرّع بحسب ما تقتضيه المصلحة، دون الخروج من عباءة الشريعة الإسلامية وروح مقاصدها في الحياة.
بالتالي، إن من المتفق عليه أن الأفعال المحرمة يؤمر بها أو ينهى عنها، لأن في إتيانها أو تركها ضرراً بنظام الجماعة أو عقائدها أو بحياة أفرادها أو بأموالهم أو بأعراضهم أو بمشاعرهم أو بغير ذلك من الاعتبارات التي تمس مصالح الأفراد أو مصالح الجماعة ونظامها، والأفعال التي تمس مصالح الأفراد تنتهي بمساس مصلحة الجماعة ونظامها، فالأفعال التي تحرم إذن لم تحرم إلا لحفظ مصالح الجماعة ونظامها، والعقوبات التي تفرض على هذه الأفعال إنما تفرض لحماية مصالح الجماعة ونظامها، والأفعال التي تحرم لا تحرم لذاتها؛ لأن من هذه الأفعال ما قد يستفيد منه الفاعل ويعود عليه بالنفع كالسرقة وخيانة الأمانة والرشوة، فإنها تعود على الجاني بالكسب، وكالقتل للانتقام فإنه يعود على القاتل بشفاء نفسه من الحقد والشعور بالذلة والعار، فهناك فوائد محققة تعود على الجاني من ارتكاب الجريمة، ولكن هذه الفوائد التي قد يصيبها الجاني من جريمته تؤدي إلى إفساد الجماعة والإضرار بها وانحلال نظامها، ولتلافي هذه النتائج حرمت هذه الأفعال؛ حماية للجماعة من الفساد وحفظاً لنظامها من التفكك والانحلال.
والأفعال المحرمة بعضها يعتبر بطبيعته جريمة؛ لأنه يتنافى مع الأخلاق والقيم كالسرقة والزنا، وبعضها لا يعتبر كذلك ولم يتم تحريمه لأنه يمس الشرف أو يؤذي الأخلاق، وإنما حُرّم لأن في إباحته إضراراً بالجماعة؛ كتحريم حمل السلاح، وتحريم الامتناع عن تلقي العلم، فمثل هذه الأفعال تحرم لحفظ مصالح الجماعة ودفع الضرر عنها، وإذا كانت الأفعال تحرم لمصلحة الجماعة، فإن العقوبة تفرض باعتبارها وسيلة لحماية الجماعة مما يضر بصوالحها ونظامها، ولما كانت العقوبة هي أمثل الوسائل لحماية الجماعة من الجريمة والإجرام، فإن العقوبة بهذا تصبح ضرورة اجتماعية لا مفر منها، ومثل العقوبة في هذا كل وسيلة أخرى تقوم مقام العقوبة في حماية الجماعة من الإجرام والمجرمين.
بالتالي إن العقوبة ضرورة اجتماعية، فإن كل ضرورة تقدر بقدرها، فلا يصح أن تكون العقوبة أكثر مما ينبغي لحماية الجماعة ودفع ضرر الإجرام عنها، كما لا يصح أن تكون أقل مما يجب لحماية الجماعة من الإجرام، إذ من الممكن أن تكون العقوبة لتأديب الجاني وكفه عن معاودة الجريمة، وأن تكون بحيث يستطيع القاضي أن يختار نوع العقوبة الملائمة لشخصية الجاني وأن يقدر كمية العقوبة التي يراها كافية لتأديبه وكف أذاه، وهذا يقتضي تنوع العقوبات وتعددها للجريمة الواحدة، وجعل العقوبات ذات حدين؛ ليستطيع القاضي أن يختار العقوبة الملائمة ويقدر كميتها من بين حدي العقوبة الأدنى والأعلى، أيضاً أن تكون العقوبة كافية لزجر الغير عن ارتكاب الجريمة بحيث إذا فكر في الجريمة وعقوبتها وجد أن ما يعود عليه من ضرر العقوبة قد يزيد على ما يعود عليه من نفع الجريمة، أي أن يكون هناك تناسب بين الجريمة والعقوبة، بحيث تكون العقوبة على قدر الجريمة، فلا يصح أن يكون عقاب قطع الطريق كعقاب السرقة العادية، ولا يصح أن تكون عقوبة القتل العمد متساوية مع عقوبة القتل الخطأ، والأهم أن تكون عامة بحيث تطبق على الجميع سواسية ولا إعفاءات أو استثناءات.
بالتالي إن نظرية المسؤولية الجنائية عرفتها الشريعة الإسلامية منذ قرون طويلة، لكن القوانين الوضعية عرفتها ما بعد الثورة الفرنسية، كما أنها وضعت أكثر من نظرية لهذه المسؤولية، فقبل الثورة الفرنسية كانت المسؤولية الجنائية قائمة على أساس النظرية المادية، ومقتضاها العقاب على أي فعل أياً كان مرتكبه، وبغض النظر عن صفته وحالته، وقد أدت هذه النظرية إلى عقاب الإنسان والحيوان والجماد، وأدت إلى عقاب الأحياء والأموات والأطفال والمجانين، وبعد الثورة قامت المسؤولية الجنائية على أساس من فلسفة الاختيار، ويسمى هذا المذهب بالمذهب التقليدي، وخلاصته أنه لا يصح أن يسأل جنائياً إلا من يتمتع بالإدراك والاختيار، وأن الإنسان وحده هو الذي تتوفر فيه هاتان الصفتان، وأن الإنسان بعد سن معينة يستطيع أن يميز بين الخير والشر ويختار بينهما، ومثل هذا الشخص هو الذي توجه إليه أوامر الشارع ونواهيه، فإذا خالف الشارع مع قدرته على الإدراك والاختيار كان من العدل أن يعاقب جزاء على مخالفته أمر الشارع. فأساس المسؤولية هو الإدراك والاختيار، والعقوبة مفروضة ضماناً لتنفيذ أمر الشارع، وجزاء عادلاً على مخالفته.
وبعد أن ساد المذهب التقليدي زمناً ظهر المذهب الوضعي، وهو قائم على فلسفة الجبر، وخلاصته أن المجرم لا يأتي الجريمة مختاراً، وإنما مدفوعاً إليها بعوامل لا قبل له بها ترجع إلى الوراثة والبيئة والتعليم وإذا كان الجاني لا خيار له في ارتكاب الجريمة فقد امتنع عقابه طبقاً للمذهب التقليدي، ولكن يمكن عقابه إذا اعتبرت العقوبة وسيلة من وسائل الدفاع عن الجماعة وحمايتها، وعلى أساس هذا المذهب يعاقب الإنسان سواء كان مختاراً أو غير مختار، مدركاً أو غير مدرك، عاقلاً أو مجنوناً، وإنما تختلف العقوبة التي تصيب كل جانٍ باختلاف سنه وعقليته، وقد أخذت بعض القوانين بهذا المذهب ومنها القانون السوفيتي الصادر في سنة 1926، ولكن أكثر الدول لم تأخذ به، ثم ظهر مذهب آخر قصد منه التوفيق بين المذهبين السابقين، ويسمى مذهب الاختيار النسبي، ويرى أصحابه الإبقاء على المذهب التقليدي، لأن الإنسان مهما كان اختياره محدوداً فإن لإرادته دخلاً في الجريمة، هذا المذهب يضيف إلى المذهب القديم فكرة أخرى، وهي أن للمشرع أن يحمي الجماعة من إجرام الأشخاص الذين يمتنع عقابهم لانعدام إدراكهم أو اختيارهم، بأن يتخذ معهم إجراءات خاصة مناسبة لحالتهم. وهذا المذهب هو الذي يسود القوانين الوضعية اليوم.
من هنا، يبدو أن المذهب القانوني الأخير يؤدي إلى نفس النتائج التي تؤدي إليها الشريعة الإسلامية، الفرق فقط أن الشريعة أدق منطقاً وأفضل صياغة، فهي تجعل العقوبة ضرورة اجتماعية ووسيلة لحماية الجماعة، وتفرق في تطبيق وسائل حماية الجماعة بين الشخص المختار المدرك ونقيضه أو الاختيار، أما المذهب القانوني فأساس العقوبة فيه مخالفة أمر الشارع وتحقيق العدالة، وهذا الأساس مأخوذ عن المذهب التقليدي، وهو أساس يتعارض منطقياً مع معاقبة غير المسؤول، أو اتخاذ أي إجراء ضده، والشريعة الإسلامية وإن كانت تجعل أساس المسؤولية الجنائية الإدراك والاختيار، والمدرك المختار مسؤولاً كلما خالف أمر الشارع، وتعتبر فاقد الإدراك أو الاختيار غير مسؤول، إلا أنها تجعل العقاب ضرورة اجتماعية ووسيلة لحماية المجتمع، وهذا يجعل من حق الشارع عقاب المسؤول جنائياً بالعقوبة التي تحمي الجماعة منه، كما يجعل من حق الشارع أن يتخذ ضد غير المسؤول الوسائل الملائمة لحماية الجماعة من شره وإجرامه إذا دعت الضرورة لذلك.
وبالتالي إن المسؤولية الجنائية في الشريعة تعني أن يتحمل الإنسان نتائج الأفعال المحرمة التي يأتيها مختاراً وهو مدرك لمعانيها ونتائجها، أما في القوانين الوضعية الحديثة هو نفس معنى المسؤولية الجنائية في الشريعة الإسلامية، وأسس المسؤولية في القوانين هي نفس الأسس التي تقوم عليها المسؤولية في الشريعة، ولا يخالف الشريعة إلا القوانين التي تقيم نظرية المسؤولية على فلسفة الجبر، وعدد هذه القوانين محدود.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان