فى مصارحة مهمة له أمام لجنتى الإعتمادات فى مجلسى النواب والشيوخ بالكونجرس الأمريكى كشف أنتونى بلينكن وزير الخارجية حقيقة الموقف الأمريكى من الصراع الدائر على أرض فلسطين بين كيان الاحتلال الإسرائيلى والشعب الفلسطينى بكل مكوناته السياسية بعد حرب الـ 11 يوم التى جرت فى الفترة من 10- 21 مايو الفائت، والتى غيرت كثيراً من مفاهيم مجرى الصراع وآفاقه المستقبلية وطرحت الكثير من علامات الاستفهام حول مستقبل هذا الصراع بعد هذه الحرب وبالتحديد السؤال المحورى عن مدى صلاحية مشروع التسوية السلمية لهذا الصراع سواء وفقاً للمنظور العربى لحل الصراع سلمياً بالتخلى عن مشروع تحرير الأرض المحتلة كما تكرس إبتداءً من تسوية كامب ديفيد المصرية- الإسرائيلية أو مشروع الملك فهد للسلام عام 1982 الذى أقره مؤتمر القمة العربى فى فاس أو مشروع مبادرة السلام العربية لعام 2002 (مشروع الملك: عبد الله بن عبد العزيز) أو وفقاً للمنظور الفلسطينى كما فرضته اتفاقية أوسلو لعام 1993 .
طرح هذا السؤال أضحى ضرورياً بعد أن نجحت حرب الـ 11 يوماً التى خاضتها المقاومة الفلسطينية بكافة فصائلها فى قطاع غزة فى فرض متغيرات جديدة أبرزها أن الشعب الفلسطينى أضحى قادراً على أن يقاوم وعلى أن ينقل المعركة إلى أرض العدو وأن يهز تماسك جبهته الداخلية والأهم أنها فرضت على الإسرائيليين أن يتساءلوا: إلى أين نحن ذاهبون ؟
إجابات كثيرة بدأت تتحدث عن سيناريوهات مظلمة للمستقبل الإسرائيلى بين تفجر الحرب الأهلية بسبب تفاقم الانقسامات الحادة نتيجة سيطرة اليمين التوراتى المتطرف على مقاليد السلطة وبين سيناريو الهجرة المعاكسة من إسرائيل إلى الخارج الأوروبى والأمريكى هرباً من مجتمع لم يعد يؤمِّن الحياة الهادئة والواعدة. كما فرضت هذه الحرب نتائج لا تقل أهمية على المستوى الفلسطينى، فقد توحد الشعب الفلسطينى حول القدس وحول خيار المقاومة بعد أن تذوق ثمارها التى حرم منها على مدى أكثر من 35 سنة من مسيرة سلام كاذب ومخادع عاشه الفلسطينيون مع أوهام اتفاقية أوسلو.
توحد الفلسطينيون فى الأراضى المحتلة عام 1948 أى داخل إسرائيل دفاعاً عن القدس والأقصى ودفاعاً عن قطاع غزة ، كما انتفض الشعب الفلسطينى فى الضفة الغربية دفاعاً عن الأقصى ودفاعاً عن قطاع غزة، توحداً أثار رعباً داخل كيان الاحتلال وأيضاً لدى الإدارة الأمريكية بقدر ما أثار إعجاباً وفجر تضامناً كان كامناً فى كثير من الأوساط العربية والعالمية خاصة الأمريكية والأوروبية التى بدأت تطرح مطالب مفادها ضرورة التخلص من ركام مفاهيم وضغوط الصهيونية، التى أدت إلى انحراف الوعى العالمى بحقيقة الصراع الدائر فى فلسطين وبحقيقة كيان الاحتلال وزيف ديمقراطيته وتعرية كونه كيان فصل عنصرى بامتياز .
محصلة كل هذه المتغيرات فلسطينياً وعربياً وعالمياً، وقبل هذا كله إسرائيلياً وبالذات وصول قادة الاحتلال والرأى العام الإسرائيلى إلى قناعة مفادها أن 73 عاماً من اغتصاب فلسطين لم تنجح فى إثناء الشعب الفلسطينى عن عزمه فى تحريره وطنه المغتصب، وأن خطراً داخلياً بات يتهدد الكيان الإسرائيلى، فرضت قناعة عامة مفادها أن حرب الـ 11 يوماً حققت للشعب الفلسطينى نجاحات لم تستطع مسيرة سلام كاذب تحقيق ولو 10% منها فقط ، الأمر الذى بات يفرض على الفلسطينيين مراجعة خياراتهم الاستراتيجية وتبنى الخيارات القادرة على استعادة الحقوق شرط الالتزام بكل متطلباتها وأولها الوحدة الوطنية الفلسطينية.
هذه القناعة التى أخذت تترسخ يوماً بعد يوم عند الشعب الفلسطينى وتلقى دعماً عربياً وعالمياً متزايداً هى الآن محور الاهتمامات الإسرائيلية لحكومة الاحتلال الجديدة وللإدارة الأمريكية للرئيس جو بايدن ووزير خارجيته انتونى بلينكن الذى كشف فى المصارحة المشار إليها فى مقدمة هذا المقال أن الإدارة الأمريكية مشغولة الآن بالسبل الكفيلة بإبقاء خيار التسوية دون غيره خياراً فلسطينياً مدعوماً بخيار التطبيع العربى مع كيان الاحتلال، ومنع حدوث أى تحولات فلسطينية أو عربية من شأنها أن تزعزع الثقة فى هذا الخيار بتصويره على أنه “الخيار الواقعى” أو “الخيار الممكن” والحيلولة دون تحول الفلسطينيين نحو خيار المقاومة، خصوصاً بعد ملاحظة تحول فى مواقف نخب مثقفة وسياسية فلسطينية من تجاوز مطلب “حل الدولتين” إلى مطلب “الدولة الواحدة الديمقراطية: على كل أرض فلسطين اعتقاداً بأن حرب الـ11 يوماً جعلت ذلك ممكناً .
فى مكاشفته تلك أبلغ بلينكن لجنتى الاعتمادات بمجلسى الشيوخ والنواب أن إدارة بايدن ستمول وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) بشرط إصلاح التعليم المناهض لإسرائيل واليهود “مشيراً بشكل خاص” إلى المواد التعليمية التى تمحو إسرائيل من الخرائط وتثنى على الإرهاب والاستشهاد ” على حد قوله . كما أكد على إلتزام الولايات المتحدة بتجديد مخزون القبة الحديدية الإسرائيلية من الصواريخ (عوضاً عن ما خسرته خلال حرب الـ 11 يوماً”، وجدد موقف إدارة بايدن بأن “إسرائيل من حقها الدفاع عن نفسها ضد الصواريخ التى يتم إطلاقها بشكل عشوائى ضد المدنيين الإسرائيليين” ، كما جدد وصف حركة “حماس” بـ “الإرهابية” لكنه إلى جانب ذلك كان حريصاً فى لقاءات أخرى أن يتحدث عن دعم خيار حل الدولتين، ودعم مسار التسوية وإعمار قطاع غزة شرط عزل حركة “حماس” عن هذه المهام، ضمن مسعى أمريكى- إسرائيلى لتعميق فجوة عدم الثقة بين السلطة الفلسطينية وحركة “حماس” وإعطاء كل الأولوية للعلاقة والتنسيق بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
موقف أمريكى ينسجم مع أولويات الحكومة الإسرائيلية الجديدة، لكن يبقى السؤال ضرورياً ماذا لو تعمدت هذه الحكومة تجديد الحرب على قطاع غزة أو حتى التورط فى حرب مع “حزب الله” فى لبنان هل يمكن أن تستمر المراهنة على احتواء المتغيرات الجديدة فى الصراع؟
اعتقد أن واشنطن تخشى أن يفلت زمام السيطرة على رئيس الحكومة الإسرائيلية الجديدة نفتالى بينيت أمام استفزازات بنيامين نتنياهو وأحزاب اليمين المتطرفة التى تتهمه بالتفريط فى أهم متطلبات الأمن الإسرائيلى والتخاذل أمام أى خطوة أمريكية، ما قد يدفعه لشن الحرب على قطاع غزة عندها ستفشل رهانات الاحتواء الأمريكية للنتائج والمتغيرات المهمة التى فرضتها حرب الأيام الأحدى عشر ودروسها المهمة .
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الأهرام 22 / 6 / 2021م