استكمالاً لسلسة توضيحات كتاب التشريع الجنائي الإسلامي، بيّنا سابقاً أن أساس المسؤولية الجنائية هو العصيان، أي عصيان أمر الشارع، وأن مسؤولية الجاني تختلف باختلاف درجة العصيان، فإن قصد الجاني العصيان شددت العقوبة وإن لم يقصد ذلك خففت العقوبة، فقصد العصيان عامل أولي في تعيين عقوبة الجاني، وهذا القصد هو ما نسميه اليوم في اصطلاحنا القانوني بالقصد الجنائي.
وقصد العصيان أو القصد الجنائي هو تعمد إتيان الفعل المحرم أو تركه مع العلم بأن الشارع يحرم الفعل أو يوجبه، لكن يجب إدراك الفرق بين العصيان وبين قصد العصيان، فالعصيان عنصر ضروري يجب توفره في كل جريمة سواء كانت الجريمة بسيطة أو كبيرة، من جرائم العمد أو جرائم الخطأ، فإذا لم يتوفر عنصر العصيان في الفعل فهو ليس جريمة، أما قصد العصيان فلا يجب توفره إلا في الجرائم العمدية دون غيرها. والعصيان هو فعل المعصية؛ أي إتيان الفعل المحرم أو الامتناع عن الفعل الواجب دون أن يقصد الفاعل العصيان، كمن يلقي حجراً من نافذة ليتخلص منه فيصيب به ماراً في الشارع، فهو قد فعل معصية بإصابة غيره، ولكنه لم يقصد بأي حال أن يصيب غيره، ولم يقصد بالتالي فعل المعصية.
بالتالي، إن قصد العصيان هو اتجاه نية الفاعل إلى الفعل أو الترك مع علمه بأن الفعل أو الترك محرم، أو هو فعل المعصية بقصد العصيان.
وقصد العصيان أو القصد الجنائي قد يوجد لدى الجاني قبل اقتراف الجريمة، كأن ينوي قتل إنسان ثم ينفذ القتل بعد ذلك بزمن ما، وقد يعاصر القصد الجريمة كما هو الحال في جرائم المشاجرات أو في الجرائم التي تحدث بغتة بغير تدبير سابق.
وفي الشريعة، من الممكن أن يكون القصد سابقاً للجريمة أو معاصراً لها، فالعقوبة في الحالين واحدة؛ لأن أساس تقدير العقوبة هو القصد المقارن للفعل وقد توفر، ولا يصح تشديد العقاب مقابل القصد السابق على الفعل؛ لأن معنى ذلك هو العقاب على القصد وحده مستقلاً عن الفعل، والقاعدة في الشريعة أن لا عقاب على حديث النفس وقصد الجريمة قبل ارتكابها؛ بالتالي، لا تفرق الشريعة في القتل والجرح بين العمد مع سبق الإصرار والترصد وبين العمد الخالي من سبق الإصرار والترصد، بل تجعل العقوبة واحدة في الحالين، فعقوبة القتل العمد هي القصاص سواء سبقه إصرار وترصد أو لم يسبقه.
بينما القوانين الوضعية لا تعاقب على النية مستقلة عن الفعل أو القول كقاعدة عامة، ولكنها مع ذلك تفرق بين عقوبة العمد المصحوب بسبق الإصرار أو الترصد وبين عقوبة العمد الذي لم يصحبه سبق إصرار أو ترصد، وقد جرى القانون المصري على هذه التفرقة في جرائم القتل والضرب والجرح المتعمدة.
وقد فرقت الشريعة من يوم وجودها بين القصد والباعث؛ أي بين قصد العصيان وبين الدوافع التي دفعت الجاني للعصيان، ولم تجد الشريعة الباعث على ارتكاب الجريمة أي تأثير على تكوين الجريمة أو على العقوبة المقررة لها، فيصح في الشريعة أن يكون الباعث على الجريمة شريفاً كالقتل للثأر، أو الانتقام للعرض، أو أن يكون الباعث على الجريمة وضيعاً كالقتل بأجر أو القتل للسرقة، فالباعث على الجريمة ليس له علاقة بتعمد الجاني ارتكاب الجريمة، ولا يؤثر على تكوينها ولا عقوبتها شيئاً ما، وإذا كان من الممكن عملاً أن لا يكون للباعث أثر على تكوين الجريمة، وأن لا يكون له أثر على عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية، فإن هذا لا يمكن عملاً في عقوبات التعازير؛ ذلك أن الباعث أياً كان لن يؤثر في طبيعة الفعل المكون للجريمة؛ لأن الشارع ضيق سلطان القاضي في عقوبات الحدود والقصاص، بحيث لا يستطيع أن يجعل للبواعث أي اعتبار.
أما في التعازير فقد ترك الشارع للقاضي من الحرية في اختيار العقوبة وتقديرها ما يمكنه عملاً من أن يحل البواعث في تقدير العقوبة محل الاعتبار.
فللباعث أثر من الوجهة العملية على عقوبات التعازير دون غيرها من العقوبات، وعلة ذلك أن عقوبات الجرائم التعزيرية غير مقدرة، وللقاضي حرية واسعة فيها؛ فله أن يختار نوع العقوبة ويعين كمها، فإذا راعى القاضي البواعث فخفف العقوبة أو شددها فإنه يفعل ذلك في نطاق حقه، ولا يخرج عن حدود سلطانه. أما جرائم الحدود والقصاص فعقوبتها مقدرة أي محددة، وليس للقاضي أن ينقص منها أو يزيد فيها، ومن الواجب عليه أن يحكم بها مهما كان الباعث على الجريمة، فسواء كان الباعث شريفاً أو وضيعاً فالعقوبة لن تتغير.
وأكثر القوانين الوضعية تتفق في هذه المسألة مع الشريعة، فهي لا تخلط أيضاً بين الباعث على الجريمة والقصد الجنائي، ولا تجعل للباعث أثراً على تكوين الجريمة أو عقوبتها كقاعدة عامة، ولكن بالرغم من ذلك فإن للباعث من الوجهة العملية أثره على تقدير العقوبة، إذ للقاضي أن يقدر العقوبة الملائمة من بين الحدين الأدنى والأعلى للعقوبة، وله في كثير من الأحوال أن يختار إحدى عقوبتين، وهو يختار العقوبة ويقدر كمّها طبقاً لما يرى أن الجاني يستحقه، وهو يدخل في تقديره ظروف الجريمة والمجرم، والبواعث التي دفعت لارتكاب الجريمة، فيخفف العقوبة إن رأى الجاني مستحقاً التخفيف، ويشددها إن رآه مستحقاً لذلك، وبهذا يكون للباعث أثره العملي على العقوبة. وهذه هي طريقة القانون الفرنسي والقانون المصري.
على أن هناك بعض القوانين كالقانون الإيطالي والبولوني تجعل من الباعث ظرفاً مخففاً أو مشدداً للعقوبة، وتلزم القاضي بمراعاة هذا الباعث عند تقدير العقوبة، وهذه القوانين وإن كانت تعترف بأن للباعث أثراً قانونياً على العقوبة إلا أنها من الوجهة العملية لا تصل إلى أكثر من النتائج التي تصل إليها القوانين التي لا تعترف بالباعث من الوجهة النظرية، لأن القاضي لا يستطيع عملاً أن يتخلى دائماً عن اعتبار البواعث عند تقدير العقوبة، سواء اعتبر الشارع البواعث أو لم يعتبرها.
فالفرق بين الشريعة والقوانين الوضعية أن الشريعة لا تعترف بالباعث ولا تجعل له أثراً في الجرائم الخطيرة التي تمس الجماعة ونظامها، وهي جرائم الحدود والقصاص، أما فيما عدا هذه الجرائم، فإن الشريعة وإن لم تعترف بالباعث من الوجهة النظرية، إلا أنه ليس فيها ما يمنع القاضي من تقدير الباعث من الوجهة العملية، وأكثر القوانين تهمل الكلام على الباعث ولا تعترف به من الوجهة النظرية، ولكن هذا لا يمنع القاضي من تقدير البواعث عملاً في كل الجرائم البسيطة والخطيرة على السواء.
هنا الشريعة في هذا الأمر تضع مصلحة الجماعة في الجرائم الخطيرة فوق كل اعتبار، ولا تسمح للقاضي بأن يفاضل بين هذه المصلحة ومصلحة الجاني؛ لأن معنى ذلك هو إخضاع المصلحة العامة للعواطف والأهواء.
وفيما يتعلق بصور القصد، فليس له صورة معينة، فهو يظهر في صور متنوعة تختلف باختلاف الجرائم ونية المجرم، فقد يكون القصد عاماً، وقد يكون خاصاً، وقد يكون القصد معيناً أو غير معين، وقد يكون القصد مباشراً أو غير مباشر.
القصد العام والقصد الخاص: يتوفر القصد العام كلما تعمد الجاني ارتكاب الجريمة مع علمه بأنه يرتكب محظوراً، وأكثر الجرائم يكتفي فيها بتوفر القصد الجنائي العام، كجريمة الجرح والضرب البسيط فإنه يكفي فيها أن يتعمد الجاني إتيان الفعل المادي مع علمه بأنه يأتي فعلاً محرماً، وفي بعض الجرائم لا يكتفي الشارع بالقصد العام، بل يشترط أن يتوفر معه قصد خاص كتعمد نتيجة معينة أو ضرر خاص، كما هو الحال في جريمة القتل العمد أو جريمة السرقة.
وفي الحالات التي يشترط فيها قصد خاص يختلط القصد الجنائي بالباعث كلما كان القصد الخاص هو الباعث على الجريمة، فمن يقتل شخصاً بقصد إزالته من طريقه يختلط قصده الخاص بالباعث على الجريمة، ولكن لا يمكن أن يقال: إن الباعث يؤثر على الجريمة أو العقوبة؛ لأننا لا ننظر إلى الباعث في حالة الاختلاط باعتباره باعثاً وإنما باعتباره قصداً خاصاً.
أما القصد المعين والقصد غير المعين: يكون القصد معيناً إذا قصد الجاني ارتكاب فعل معين على شخص أو أشخاص معينين، ويعتبر الفعل معنياً سواء كان بطبيعته ذا نتائج محدودة كمن يذبح شخصاً أو أكثر بسكين، ويعتبر الفعل معيناً ولو كانت نتائجه غير محدودة كلما أتاه الجاني وهو عالم بنتائجه قاصداً تحقيق هذه النتائج كلها أو بعضها، لا يبالي أيها تحقق وأيها تخلف، ويعتبر المجني عليه معنياً كلما أمكن تعيينه، ولو لم يعين باسمه أو شخصه أو وصفه، ويكون القصد غير معين إذا قصد الجاني ارتكاب فعل معين على شخص غير معين، ويعتبر الشخص غير معين إذا لم يكن في الإمكان تعيينه قبل الجريمة.
من هنا، يلاحظ أن تقسيم القصد في الشريعة إلى معين وغير معين مقابل تقسيم القصد في القانون إلى محدود وغير محدود، وأن رأي الفقهاء القائلين بعدم التفرقة بين القصد المعين وغير المعين في القتل يتفق تمام الاتفاق مع رأي شارح القانون الفرنسي والمصري، حيث لا يفرق هؤلاء أيضاً بين القصد المحدود وغير المحدود؛ لأن الجاني في الحالين يقصد النتيجة التي حدثت أو يقبل وقوعها عند ارتكاب الجريمة.
ونصوص القانون المصري والفرنسي لا تفرق بين القصد المحدود والقصد غير المحدود أيضاً، فهي بهذا تتفق مع رأي الفقهاء القائلين بعدم التفرقة بين القصد المعين والقصد غير المعين، فالمادة /231/ من قانون العقوبات المصري المماثلة للمادة /297/ من قانون العقوبات الفرنسي تعرف سبق الإصرار بأنه: “هو القصد المصمم عليه قبل الفعل لارتكاب جنحة أو جريمة، غرض المصر منها إيذاء شخص معين أو أي شخص غير معين وجده أو صادفه، سواء كان هذا القصد معقباً على حدوث أمر أو موقوفاً على شرط”.
أما الفقهاء القائلون بالتفرقة بين القصد المعين والقصد غير المعين، فرأيهم يطابق أو يقترب من النظرية الألمانية، التي تعتبر الجاني مخطئاً لا عامداً كلما أدى فعله إلى نتائج لم يتمثلها أو لم يقصدها قصداً صحيحاً.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان
المصادر:
التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي – مكتبة فكر.