إن فهم القوانين الوضعية وأحكام الشريعة الإسلامية، أمر إجباري لا اختياري لكل قانوني سواء مارس مهنة القانون أم كان باحثاً فيها، أي عليه الإلمام بكل الجوانب ومكاشفة كل الآراء لتكوين فهمٍ صحيح، يزيد من تمكن العامل في هذا الحقل من إصدار الحكم العادل، والرأي السديد، لأن هذه المهنة هي أم المهن لأنها تحدد مصائر الناس في مختلف جوانب الحياة كأشخاص مسلمين وغير مسلمين على حدٍّ سواء.
واستكمالاً لسلسة التشريع الجنائي الإسلامي، مقارناً بالقوانين الوضعية، نكمل بحثنا هذا في محاولة لتبسيط المعلومة لتصل إلى الجميع دون استثناء.
الصلب هو عقوبة على جريمة الحرابة، حيث يرى بعض الفقهاء صلب المحكوم عليه بعد قتله, وإن البعض الآخر يرى إن صلبه حياً ثم قتله وهو مصلوب. وقد كان تقرير الصلب حداً لجريمة قطع الطريق مما دعا الفقهاء للقول بأن الصلب ممكن أن يكون عقوبة تعزيرية، والصلب للتعزير لا يصحبه القتل طبعاً ولا يسبقه, وإنما صلب الإنسان حياً ولا يمنع عنه طعامه ولا شرابه, ولا يمنع من الوضوء للصلاة ولكنه يصلي إيماء, ويشترط الفقهاء في الصلب أن لا تزيد مدته على ثلاثة أيام، لكن عقوبات التعازير غير لازمة كعقوبات الحدود أو القصاص, وعلى هذا فالأمر في جعل الصلب عقوبة أو إهمالها متروك للهيئة التشريعية, فإن رأت أنها تصلح لبعض الجرائم أو لكلها أقرتها, وإن رأت أنها لا تصلح تركتها، وهذا ما كنا نقوله منذ بداية هذه السلسلة حول إن المجتمعات اليوم بحاجة إلى هيئات متخصصة تدرس كل حالة وتعطي الحكم العادل فيها.
أما بما يتعلق بعقوبة الوعظ وما دونها، يعتبر الوعظ عقوبة تعزيرية في الشريعة الإسلامية, ويجوز للقاضي أن يكتفي في عقاب الجاني بوعظه إذا رأى أن في الوعظ ما يكفي لإصلاحه وردعه، وفي الشريعة من العقوبات التعزيرية ما هو دون الوعظ, فالفقهاء يعتبرون أن مجرد إعلان الجاني بجريمته عقوبة تعزيرية, وفي إحضاره إلى مجلس القضاء عقوبة تعزيرية، ومثل هذه العقوبات لا توقع إلا على من غلب على الظن أنها تصلحه وتزجره وتؤثر فيه، في حين أن عقوبة الهجر، أيضاً من العقوبات التعزيرية، وعقوبة التوبيخ، فإذا رأى القاضي أن التوبيخ يكفي لإصلاح الجاني وتأديبه اكتفى بتوبيخه، أما عقوبة التهديد فهي أيضاً من العقوبات التعزيرية شرط أن لا يكون تهديداً كاذباً، وبشرط أن يرى القاضي أنه منتج وأنه يكفي لإصلاح الجاني وتأديبه، ومن التهديد أن ينذره القاضي بأنه إذا عاد فسيعاقبه بالجلد أو بالحبس أو سيعاقبه بأقصى العقوبة، ومن التهديد أن يحكم القاضي بالعقوبة ويوقف تنفيذها إلى مدة معينة.
وقد عرفت القوانين الوضعية عقوبتي التوبيخ والتهديد، وأخذت بالتوبيخ القضائي كعقوبة للجرائم البسيطة وللمجرمين المبتدئين، وأخذت بالتهديد القضائي عقوبة لمن يرى القاضي أن التهديد كاف لزجرهم وإصلاحهم، وقد طبقت القوانين الوضعية عقوبة التهديد بطرق مختلفة، فبعضها يرى أن يحكم القاضي بالعقوبة مع إيقاف تنفيذها لمدة معينة فإن عاد المجرم أمكن تنفيذ العقوبة الموقوفة، وبعضها يرى الاكتفاء بإنذار الجاني أن لا يعود لجريمته، هذه الوسائل المختلفة التي تأخذ بها القوانين الوضعية ليست إلا تطبيقات للتهديد بالعقوبة، ويكفي أن نعرف أن القوانين الوضعية لم تأخذ بنظام التوبيخ والتهديد بالعقاب إلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بينما عرفت الشريعة هذين النظامين وغيرهما من ثلاثة عشر قرناً وأكثر.
وعقوبة التشهير الذي يعني الإعلان عن جريمة المحكوم عليه. ويكون التشهير في الجرائم التي يعتمد فيها المجرم على ثقة الناس كشهادة الزور والغش، وهو من الجرائم التعزيرية، وكان التشهير يحدث قديماً بالمناداة على المجرم بذنبه في الأسواق والمحلات العامة حيث لم تكن هناك وسيلة أخرى، أما في عصرنا الحاضر فالتشهير ممكن بإعلان الحكم في الصحف أو لصقه في المحلات العامة، والقوانين الوضعية تأخذ بعقوبة التشهير، وقد أخذ بها القانون المصري في بعض الجرائم كالغش والبيع بأكثر من السعر الجبري، وأما العقوبات الأخرى، فليست العقوبات السابقة هي كل عقوبات التعزير في الشريعة الإسلامية؛ لأن التعازير ليست معينة وإنما ترك أمرها لأولي الأمر؛ أي الهيئة التشريعية، يختارون منها ما يرونه صالحاً لمحاربة الإجرام وإصلاح المجرمين وتأديبهم، ويتركون ما يرونه غير صالح، ولا يتقيدون في ذلك بقيود ما إلا بمراعاة الأسس العامة التي تقوم عليها نظرية العقاب.
هناك عقوبات أخرى ليست عامة ولا تنطبق على كل الجرائم وأهمها: العزل من الوظيفة: وتطبق على الذين يتولون الوظائف العامة سواء كان العمل بمقابل أو مجاناً، الحرمان: ومعناه حرمان المجرم من بعض الحقوق المقررة له شرعاً, كالحرمان من تولي الوظائف, ومن أداء الشهادة، وكالحرمان من سلب القتيل, والحرمان من سهم الغنيمة, وكإسقاط النفقة للنشوز، كذلك المصادرة: ويدخل تحتها مصادرة أدوات الجريمة ومصادرة ما حرمت حيازته، الإزالة: ويدخل تحتها إزالة أثر الجريمة أو العمل المحرم, كهدم البناء المقام في الشارع العام, وإعدام أواني الخمر واللبن المغشوش، وهذه العقوبات جميعاً تعرفها القوانين الوضعية اليوم وتأخذ بها.
وعن عقوبة الغرامة، إن الشريعة عاقبت على بعض الجرائم التعزيرية بعقوبة الغرامة, من ذلك أنها تعاقب على سرقة الثمر المعلق بغرامة تساوي ثمن ما سرق مرتين فوق العقوبة التي تلائم السرقة، لكن الفقهاء بالرغم من هذا اختلفوا فيما إذا كان من الجائز جعل الغرامة عقوبة عامة يمكن الحكم بها في كل جريمة، فرأى البعض أن الغرامة المالية يصح أن تكون عقوبة تعزيرية عامة, ورأى البعض أنه لا يصح أن تكون الغرامة عقوبة عامة، ويمكن أن يؤيد الرأي المعارض في الغرامة المالية بأن جعل الغرامة عقوبة أساسية يؤدي إلى تمييز الأغنياء على الفقراء؛ لأن الغني يستطيع أن يدفع دائماً أما الفقير فلا يستطيع ذلك, ومن ثم فلا يمكن أن يعاقب بالغرامة وهي أخف بكثير من بعض العقوبات الأخرى.
وفي عصرنا الحاضر حيث نظمت شؤون الدولة وروقبت أموالها, وحيث تقرر الهيئة التشريعية الحد الأدنى والحد الأعلى للغرامة، وحيث ترك توقيع العقوبات للمحاكم, لم يعد هناك محل للخوف من مصادرة أموال الناس بالباطل, وبذلك يسقط أحد الاعتراضات التي اعترض بها على الغرامة. كذلك وجدت جرائم بسيطة يعاقب عليها بعقوبات مالية تافهة كالمخالفات بحيث يستطيع أكثر الناس دفع الغرامة، وبهذا يضعف أحد الاعتراضات الأخرى على الأقل في هذه الجرائم البسيطة، وبكل الأحوال فإن الفقهاء الذين يرون جعل الغرامة عقوبة عامة يقررون أنها لا تصلح إلا في الجرائم البسيطة, ولم يحاولوا أن يضعوا للغرامة حداً أدنى أو حداً أعلى تاركين ذلك لولي الأمر.
القوانين الوضعية تجعل الغرامة عقوبة أساسية في معظم الجرائم, وتتوسل إلى تنفيذ العقوبة بوسيلتين: هي التنفيذ الجبري على أموال المحكوم عليه, فإن لم يكن له مال فالثانية وهي: الإكراه البدني, وهو يكون بتشغيل المحكوم عليه في عمل حكومي إذا وجد هذا العمل أو بحبس المحكوم عليه مدة معينة, ومعنى هذا أن عقوبة الغرامة تنتهي بالسجن إذا كان المحكوم عليه فقيراً, مع أن القوانين الوضعية تعتبر عقوبة الحبس أشد من عقوبة الغرامة.
وبذلك هذه الجرائم البسيطة إلى حد ما، تمت مراعاتها من قبل الشريعة الإسلامية، وأخذت بها القوانين الوضعية، فأوجدوا البدائل عن كل عقوبة بما يراعي حالة كل مجرم عن غيره وظروفه وظروف الجريمة بشكل عام.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان