قال تبارك وتعالى: (لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم)، الآن وفي ظل هذا الوضع الذي تعيش فيه الأمة العربية والإسلامية، من خلال تهديد الإسلام والمسلمين والانتقاص من علماء الإسلام بشكل رهيب جداً، نجد موقف الناس يتنافى مع الحكمة، مع ما يواجهون، وفقدوا الرؤية الحكيمة لما يواجهون، وتعاموا عن النظرة الصحيحة للوضع الذي يعيشون، لبعدهم عن القرآن وعن الثقافة القرآنية.
يجب أن يكون عنوان ثقافتنا الأساسي، أن نتثقف بالقرآن الكريم. سنجد أن القرآن الكريم عندما نتعلمه ونتبعه يزكينا، يسمو بنا، يمنحنا الحكمة، يمنحنا القوة، يمنحنا كل القيم، كل القيم التي لما ضاعت الأمة بضياعها، كما هو حاصل الآن في وضع المسلمين، وفي وضع العرب بالذات، فالثقافة، هي تعليم وتربية وفلسفة، هي المعرفة المتصلة بالعلوم الإنسانية التي ترقى بالإنسان وتوسع دائرة معارفه، وتميزه بالنظرة الشاملة بحيث ينعكس هذا كله على شخصيته وسلوكه مما يجعل منه إنساناً واسع الأفق مهذباً.
من هذه المقدمة، نكمل تفسير “سورة طه” المباركة في هذا الشهر الكريم، أملاً أن تعم الفائدة والخير بين جميع المسلمين، وكنا قد وصلنا إلى الآية: (وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حيّة تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى اذهب إلى فرعون إنه طغى)، هذه الآيات تصوّر لنا المرحلة الثانية في خطاب الله تبارك وتعالى، لموسى عليه السلام، كما جاءت في هذه السورة، حيث يسأله الله ربه بعد أنا قال: (أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى)، فبعد أن أنهى إليه حقيقة الرسالة وما ينبغي أن يلتزم به المؤمن، ولا سيما إن كان نبياً مختاراً مصطفىً، ولا شك أن نبي الله موسى كان قد ألمّ بكثيرٍ من حقائق الدين، في الفترة التي عايش فيها العبد الصالح، الذي يقال في بعض الروايات إنه “شعيب” عليه السلام، موسى لم يفاجئ مفاجأة من لا يدري، لكنه شعر بانكشاف سرٍّ معين، كشف الله له حقيقته وأنهى إليه مبادئه من التوحيد ومن الصلاة ومن الإيمان بالآخرة، ويسأل الله عز وجل موسى عليه السلام (وما تلك بيمينك يا موسى)، لا يمكن أن يكون هذا أمراً خافياً عن علم الله تبارك وتعالى، ولكنه إيناسٌ بموسى عليه السلام ومحاولة إلى لفت نظره إلى شيءٍ هائلٍ سوف يحدث، فهو يلفته إلى العصا، وينظر موسى إلى العصا، فهل هناك مجال للسؤال عمّا في يمينه وهي عصا، (فقال موسى هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى)، إجابة موسى هنا تشير إلى مجموعةٍ من الحقائق في الموقف، أولها أن موسى عليه السلام يبدو أنه كان يستصحب معه في رحلته هذه قطيعاً من الغنم، لأنه لا يمكن أن يقطع هذه المسافات في الصحراء والبادية دون أن يكون معه ما يعينه على المضي في الرحلة، والرحلة فيها امرأة وفيها أطفال وهم يحتاجون ما يعينهم سواء من شرب لبنٍ أو طعام يساعدهم على الاستمرار، فكان موسى في إجابته مستوعباً لكل أركان وأجزاء الرحلة.
(هي عصاي أتوكأ عليها) بما يمثله هذا الهدف من فكرةٍ بسيطة عن العصا، فنحن لا نمسك العصا في أيدينا إلا إذا كنا سنتوكأ عليها، وموسى في ذلك الوقت، مخلوق من مخلوقات الله القوية، لم يكن ضعيفاً ولا واهناً ولكنه أراد أن يبيّن أهدافه من إمساك العصا، (فقال أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي) فليس هش الغنم يعني قيادتها أو توجيهها، لكن الهش على الغنم معناه أنه كان يستخدم العصا في إسقاط أوراق الأشجار التي تصادفه ليأكل منها الغنم، لأن هذه الحياة في البادية تعتمد على وجود الأشجار، والخضرة التي تتغذى عليها الأغنام، والعصا تساعده على توفير القوت لهذه الغنم، ثم يقول (ولي فيها مآرب أخرى)، لم يرد أن يسهب في بيان وظيفة العصا، فهو يعلم أن الله تبارك وتعالى يخاطبه، وأن الموضوع ليس متعلقاً بالعصا، ولكن الموضوع متصل بوظيفة العصا، وما الذي يمكن أن يحدث نتيجة هذا السؤال، (ما تلك بيمينك يا موسى)، وخصوصاً إذا كان السؤال من الله تبارك وتعالى، (قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى قال ألقها يا موسى)، هذا الأمر، أمر مفاجئ، إذ أن العصا تهم موسى، وهو يحافظ عليها لأنها تساعده في مسيرته، الآن يأتيه أمر من الله عز وجل، الذي يؤمن بوجوده، والذي يكلمه مباشرةً، كلاماً لا ندري كيف تمّ، ولا حقيقة هذا الكلام، إلا أننا نعرف الحوار الذي دار فقط، أما كلام الله، فهو ليس بحرفٍ ولا صوت ولا يمكن معرفة كيف يكون هذا الكلام.
الله عز وجل يقول عن نفسه: (ليس كمثله شيء)، ونحن أشياء، فهب يتكلم الله كما نتكلم؟ وهل يستخدم الصوت ويستخدم الحرف كما نستخدم نحن الصوت أو الحرف؟ كلا، إنما هو كلام يليق بذاته ولا يدرك سره إلا هو سبحانه وتعالى، يقول: (قال ألقها يا موسى فألقاها)، سمعاً أو طاعة للأمر الذي يصدر إليه من ذي الجلال والإكرام، من الله العظيم، فألقى موسى عصاه، ولعله كان يتصور عندما ألقاها، أنه تخلص من العصا، ولكنه فوجئ بأن تحولت إلى حية هائلة، حيث يصور المفسرون هذه الحية بأنها ابتلعت الشجر وابتلعت الصخر، وهذا الأمر مفاجئ تماماً، وليس الأمر متعلق بحيّةٍ تتلوى على الأرض كالثعبان، ولكنها كائن هائل يواجهه موسى لأول مرة في حياته، ولم يكن يتصور أن الأمور تتطور وتتغير بهذه الكيفية، (ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حيّة تسعى)، و”إذا” هنا لتشير إلى المفاجئة، هذه المفاجأة هي التي شدت موسى وجعلته يتجمد في مكانه، وفي سورةٍ أخرى، أن موسى خاف من الحيّة وهرب، فخاطبته القدرة الإلهية: (لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون)، قال تعالى: (خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى)، هكذا تمثل القدرة الإلهية البداية بالدعوة والاصطفاء للرسالة، تمثلها بهذه السورة الهائلة، يعني يجب أن نتصور أن هذه البداية لم تكن في شكل ثعبان صغير يتحرك في حجم العصا، ولكن لا بد أن تكون شيئاً كبيراً يخرج بالتصور البشري عن المعتاد في مثل هذه الحالة عندما يرى الإنسان مثلاً حيّة تسير، فيجري ورائها ويضربها، بالتالي ومما لا شك فيه أن موسى شعر بالخوف، لم يقبل ليقتل هذا الثعبان، ولم يحاول لأن يفعل شيئاً لأنه إنما تجمد في مكانه، ثم انطلق وأوشك أن يهرب، فاستدعته القدرة الإلهية وقالت له: (خذها ولا تخف) أي خذ الحية، فأخذها فإذا هي (ترتد سيرتها الأولى) كما كانت عصا، ولا شك أن هذا الموقف أخرج موسى من حاله السابقة، أنه جاء هذا المكان ليأخذ قبساً من نار، ليستدفئ به أهله، أو جاء ليستهدي ويسترشد عن الطريق، وهذه هي الفكرة الأساسية من تركه أهله، وسيره نحو هذه النار، فلما جاء إلى النار، لم تكن ناراً بل كانت ضوءً ساطعاً عجيباً هو من نور الله تبارك وتعالى، فكانت النتيجة، أن نسي موسى مهمته التي جاء من أجلها، وغمرته أنوار هذا الموقف، فغرق في هذا المشهد الهائل، التي شاهد فيه عجائب لا تتاح لإنسان وغير معتادة للبشر، وإنما هي موقف هائل يليق بالموقف الأول، (إنني أنا الله لا إله إلا أنا) إنه هنا يكلم ذا الجلال والعظمة، فتتحول المحاورة إلى الكشف عن هذا الإعجاز الهائل من خلال العصا، وهذا شأن من شؤون القدرة الإلهية.
أخيراً وليس آخراً، إن الرسالة القرآنية هي رسالة واقعية ومنطقية وتتماشى مع الفطرة الإنسانية، وما نعمل على إيصاله من رسائل قرآنية وشروح، لكل الناس المسلمين وغير المسلمين، بالتالي، إن ثمرة قراءة القرآن وتفسيره من خلال التأملات القرآنية خصوصاً في سورة طه، حرصاً مني للرجوع إل القرآن تدبراً وتأملاً، لأن القرآن الكريم موجه للبشرية جمعاء، خاصة الإنسان البسيط، القرآن زاد للروح، وتقريب بين العبد والخالق، قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)، خاصة وأن القرآن منهج حياة وهو كل الحياة، وهو البحر الذي لا ينتهي ولا ساحل له، فتدبر وتأمل وأخلص النية لله تبارك وتعالى، وهناك علماء أفنوا حياتهم في التفسير والعلم، وأنا عاهدت الله تبارك وتعالى في إحياء هذا الموروث، فكن مع الله يكن الله معك في هذه الحياة.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان