16 سبتمبر 2022م.. فارقت الشابة ذات العقدين “مهسا أميني” الحياة عقب القبض عليها من قِبَل شرطة الآداب الإيرانية، لارتدائها الحجاب بطريقة “غير سليمة”، فانفجرت الاحتجاجات في الشارع الإيراني بدعوى أن أميني قضت تحت التعذيب، بيد أن الحكومة أعلنت أنها ماتت بنوبة قلبية. لم تسكن الاحتجاجات بل غلى مرجلها، وذهب ضحيتها عشرات الأشخاص. اختلفت مواقف الناس من الاحتجاجات، هناك من رآها نضالاً للحرية وثورة في وجه النظام. وآخرون اعتبروها مؤامرة خارجية للقضاء على النظام الإسلامي. وطرف ثالث ذهب إلى أنها عمليات تخريبية يجب وقفها، ولكن أيضاً على النظام أن يمنح الشعب مزيداً من الحرية والمشاركة السياسية. وجنح غيرهم إلى ضرورة إصلاح النظام ذاته بتبني الديمقراطية. المقال.. لا ينحاز لموقف دون آخر، فهذا وقوع في شَرَك المعركة، والتخندق في ميادينها المتحاربة، إنما يريد أن يبيّن بأن “معركة الحجاب” لها أبعاد عديدة، المرأة.. سلاح من أسلحتها السياسية العتيدة.
يقول الله: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31]. المؤمنات.. وقت تنزّل القرآن؛ كانت هذه الآية تكفيهن ليلتزمن بالقيمة الخُلُقية للباس، فهن يفهمن مراد الخطاب الإلهي، ولغة الخطاب كمعنى الخمار والجيوب والزينة واضحة لديهن، ولو غمض عليهن المعنى لسألن عنه، ولنزل الوحي ببيانه، على عادة القرآن عندما يسأل المؤمنون نبيهم. وعندما حدثت لدى النبي مسألة التعامل مع الذين ينزلون بيته؛ أنزل الله بيان حكمها في الآيات 53-59 من “سورة الأحزاب”، فلم تكن هناك مشكلة في لباس المرأة زمن النبوة.
بعد رحيل النبي الكريم عن دنيا الناس؛ ظهرت مشكلة المرأة مع كثير من المشاكل التي أصابت المجتمع بسبب المتغيرات الحادثة، ولأجل حلها استنبط الفقهاء لها أحكاماً تتناسب مع زمانهم. لكن المرأة -في أحيان كثيرة- لم تعد هي القصد، وإنما أصبحت وسيلة، سواءً للمتعة، كما فعل الحكام من بعد الخلافة الراشدة، حين سيقت السبايا زمرا إلى القصور للتسري، واعتمد فقه الإماء ديناً تحرم مخالفته. أو أداةً للحسم الفكري بين الفقهاء، مثلما حصل بين الربيع بن حبيب (ت:~171هـ) ومن معه، وبين عبدالله بن عبدالعزيز ومن معه، وكلاهما من المذهب الإباضي، حيث اختلف الفريقان فيما يجوز للمرأة أن تبديه من جسدها، وقد استطالت الردود بينهما. وقد جاء ذلك في سياق الانتصار للمنهج الذي يتّبعه كل فريق، حيث كان النزاع بينهما حول مدى اتباع الأثر وإعمال القياس. وقد شرحنا ذلك في كتابنا “السنة.. الوحي والحكمة” [العدوي والمحرمي والوهيبي].
لحِقَبٍ متطاولة.. كانت البشرية تلزم تغطية الرأس؛ نساءً ورجالاً، فقد كان من غير المروءة أن يحسر الرجل عن رأسه، على أقل تقدير في مجتمعنا الإسلامي. وما أن حل القرن العشرون الميلادي، وأخذت العلمانية في الانتشار، حتى سقط كثير من العادات والتقاليد والمعتقدات ضحايا لها، ومع التحولات الكبرى في هيكل الاجتماع البشري وأنظمة عمله؛ استبدلت الأزياء المعتادة بملابس تواكب الحداثة ومتطلبات العمل، فقد عملت الرأسمالية على تشيئة الإنسان، فكان على المرأة أن تقدم نفسها بإبهار لكي يكون لها في سوق البشر رواج، فغار روحها في جب المادية، وانحسر الحياء من وجهها. كان الأمر صادماً للمسلمين، فهناك نصوص شرعية استندوا عليها في تحديد لباس المرأة، وكان بالإمكان معالجة ذلك بالدعوة والتفقه، إلا أن القرن العشرين اتسم بتحدٍ كبير ومستفز للمسلمين، وقد بلغ بهم الضعف أنهم لم يمتلكوا الأدوات المعرفية والمنهجية للرد على الهجمة الغربية، والتي لم تحمل تحدياً فكرياً فحسب، وإنما جاءت بمدافع الاستعمار، فكرّس ذلك رفض المسلمين كل ما يرونه مهدداً لهُويتهم. وبالنسبة لملابس المرأة.. اشتعلت فعلاً معركة عرفت بـ “معركة الحجاب”.
“الحجاب”.. مصطلح ليس دقيقاً بالنسبة للباس المرأة، لم يرد في القرآن بهذا المعنى، لكنه ليس خاطئاً كلياً، ففي الصراع المحتدم بين التغريب والمسلمين، ثم بين التوجهات السياسية والفكرية لدى المسلمين أنفسهم، كان منهم مَن يدعو إلى حجب النساء عن الرجال حجباً مادياً؛ بحيث لا تظهر شيئاً من جسدها لهم، وحجباً معنوياً؛ فتكون للمرأة أعمالها المختصة بها عن الرجل.
تركيا.. بقيادة مصطفى كمال أتاتورك(ت:1938م) من أوائل الدول التي حظرت على النساء ارتداء الحجاب، وفي ظل صعود الإسلام السياسي؛ ووصول “حزب العدالة والتنمية” إلى حكم البلاد كان الحجاب جزءاً من برنامجه السياسي، فسعى بالتشريعات القانونية إلى رفع الحظر عن ارتدائه. ومصر.. كذلك ابتدأت فيها “معركة الحجاب” باكراً، حينما تبنّى بعض رموز الدولة السفور، وكان يقصد به كشف الوجه، وقد ألّف قاسم أمين(ت:1908م) في ذلك كتابه “تحرير المرأة”، والذي تراجع عنه تحت ضغط أنصار الحجاب. بيد أن المعركة لم تحسم لصالح الحجاب، فقد سرت بين المصريات موجة خلعه وارتداء الزيّ الغربي. وتواصلت المعركة مع صعود الإسلام السياسي، حتى تمكن دعاة الحجاب من العودة بالمرأة إلى ارتدائه. الصراع.. لم يحسمه طرف واحد، بل ذهب المجتمع سُبُلاً متفرقة، فكان معظم المصريات يلبسن الزي الساتر دون تغطية الوجه واليدين، وظلت فئة منهن ترتدي اللباس الغربي، في حين؛ توجهت فئة أخرى لتغطية وجوههن وأيديهن، بل تلفعن بالسواد.
إذا كان في تركيا؛ بعد نضال سياسي وصل عبره “حزب العدالة والتنمية” لحكم البلاد، انتصر للحجاب، فإن في مصر؛ تبّنى الإسلام السياسي الدعوة إلى الحجاب من خارج نظام الحكم. وفي تونس؛ حتى انفجار الربيع العربي عام 2010م وقف النظام الحاكم ضد الحجاب، ولم يستطع الإسلام السياسي أن يفرضه إلا قليلاً. وفي السعودية.. منذ حركة جهيمان العتيبي(ت:1980م) تبنت الدولة إلزام المرأة ارتداء الحجاب الأسود كاملاً، مع فصل النساء عن الرجال. إلا أن التحولات الشاملة التي تشهدها البلاد الآن؛ بدأت المرأة تأخذ مواقع متقدمة في المجتمع والدولة، ولم يعد الحجاب مفروضاً عليها.
في معظم البلدان الإسلامية.. خضع الحجاب للتدافع الاجتماعي -وهذا أمر جيد- وكان للإسلام السياسي فيه التأثير الأوفر في التزام النساء به، سواءً بتغطية وجوههن أو دونها. وأوروبا.. أيضاً اتخذت موقفاً منه، بدرجات متفاوتة بين التساهل والتشدد، وكانت فرنسا سادنة العلمانية هي الأكثر تشدداً ضده.
المواقف.. التي اتخذتها الأنظمة الحاكمة؛ إسلامية وغير إسلامية تعاملت مع المرأة بكونها سلاحاً في معركة سياسية، وأما قضية حقوق المرأة فلا تعدو كونها مكياجاً يخفي تشوهات وجه السياسة.
عوداً على بدء.. “معركة الحجاب” في إيران لم تكن جديدة، فقد خاضها الشاة محمد رضا بهلوي(ت:1980م) لتغريب المجتمع الإيراني. ثم انقلب السحر على الساحر فأشعلها الثوار ضده، فكانت النساء ترتدي الحجاب، ليس التزاماً به بقدر كونه سلاحاً مشهراً في وجه النظام الشاهنشاهي، فكثير من النساء، ومن مختلف التيارات السياسية؛ بما فيهن الشيوعيات، ارتدته رفضاً غاضباً على نظام الحكم. واليوم.. تتواصل المعركة بالاتجاه المعاكس، فنزع غطاء الرأس في إيران ليس محركه الحرية وحقوق المرأة؛ بقدر ما هو موقف سياسي تجاه الحكومة.
ختاماً.. لن تنتهي “معركة الحجاب” طالما يُنظر إلى المسلمة بأنها أداة ليس لها أن تتخذ رأيها بحرية، وأن التزامها بدينها مرهون بما يحدده لها الرجال.