أكتب هذه السطور تحية وتقديرا لكل ثوار مصر وشبابها، الذين شاركوا فى هذا اليوم العظيم، وأخص منهم الشهداء والمعتقلين.
((إن الذين اقتحموا سفارتنا فى القاهرة هم مجموعة من الرعاع )) أيهود باراك ـ وزير الدفاع الصهيونى
تحل اليوم 9 سبتمبر 2021، الذكرى العاشرة لنجاح الشباب المصرى الثائر فى اغلاق سفارة العدو الصهيونى بموقعها الحصين فوق كوبرى الجامعة بمحافظة الجيزة.
قامت (اسرائيل) بفتح سفارتها فى القاهرة بعد توقيع معاهدة السلام فى 1979، واتخذت اول مقر لها فى شارع محيى الدين ابو العز بحى المهندسين، قبل أن تنتقل الى موقعها الحالى لتحتل الأدوار العليا فى احد الابراج المطلة على كوبرى الجامعة، والذى يمر الطريق الى مدخله فى شارع متناهى الصغر عرضا وطولا يقع تحت الكوبرى، وذلك لتمكين قوات الامن من احكام سيطرتها عليه وحمايتها له. ولتتحول المنطقة المحيطة بها الى ثكنة عسكرية، تعج بقوات الأمن والمخبريين السريين، المجهزين بكافة انواع الاسلحة. والذين حولوا حياة سكان المنطقة وكل من يقترب منها الى جحيم، وكأهم يعيشون فى معسكر للجيش او للامن المركزى، او فلنقل معسكر اعتقال.
وعلى امتداد سنوات وعقود طويلة، عجزت كل محاولات القوى الوطنية، فى الاقتراب من محيط السفارة بمسيرات او مظاهرات من اى نوع. بما فيهم طلاب جامعة القاهرة التى لا تبعد عن موقع السفارة، سوى عشرات الأمتار، الذين عجزوا كغيرهم عن الاقتراب من السفارة “المقدسة”. التى أصبحت أكثر تحصينا ربما من قصور الرئاسة أو من السفارة الامريكية ذاتها.
وحتى فى ذروة فاعليات التعاطف والدعم الشعبى للقضية الفلسطينية، عجزنا عن الاقتراب من هذا الحصن المنيع. وما زلنا نتذكر موجات الغضب الشعبى ضد اعتداءات (اسرائيل) على لبنان فى 1982 ومذبحة صابرا وشاتيلا وحرق المسجد الابراهيمى ومذبحة قانا وانتفاضة الحجارة 1987 وانتفاضة الاقصى 2000 والاعتداءات المتكررة على غزة…الخ، وكيف عجزت جميعها عن تخطى الحواجز الامنية المنيعة للسفارة.
وكان من المشاهد المتكررة والمستفزة لعموم المصريين ولسكان المنطقة، هو موكب السفير الصهيونى الذى تحمل سيارته لوحة دبلوماسية برقم 114 وهو الكود الدبلوماسى الخاص بسيارات (اسرائيل) فى مصر، وكيف يحيطونه بأسطول من سيارات الحماية الأمنية وكأنه رئيس الجمهورية، او رئيس لدولة كبرى فى زيارة لمصر.
وحين حفظ الناس هذا الرقم الكودى، أصبح ينتقل فى سيارات تحمل لوحات معدنية عادية، للتمويه والتخفى، لأنه يدرك جيدا ان المصريين لم يستوعبوا أو يقبلوا ابدا وجوده بينهم فى مصر.
كان هذا هو الوضع على امتداد 32 عاما، الى ان قامت الثورة المصرية:
وبعد نجاحها فى ازاحة مبارك فى 11 فبراير 2011، بأسابيع قليلة، وبالتحديد فى 8 ابريل 2011، نجحت طلائع من شباب الثورة لأول مرة، فى كسر الحواجز الأمنية للسفارة، والتجمع أمامها وحصارها لساعات طويلة.
كان ذلك ردا على الاعتداءات التى قامت بها (اسرائيل) على غزة فى 8 ابريل، وأوقعت 19 شهيدا، فى اول عدوان على الفلسطينيين بعد الثورة المصرية، والذى فهمه كثيرون بأنه بمثابة أول اختبار صهيونى لمصر الثورة، وبمدى التزامها بالمعاهدة وبما تنص عليه من فصل العلاقات الثنائية عن اى اعتداءات اسرائيلية على اى اطراف عربية اخرى. وهو الموقف الذى أكد النظام المصرى التزامه به على الدوام منذ 1978 حتى قبيل الثورة.
وبالفعل نجحت تظاهرات الشباب فى ذلك اليوم فى ارغام العدو الصهيونى على ايقاف العدوان على غزة فورا، بعد ان ابلغت الادارة المصرية نظيرتها الاسرائيلية، بانها لم يعد لها سيطرة على حركة الناس فى الشارع، وانه لن يكون بمقدورها حماية السفارة لو استمر العدوان.
وكانت الموقعة الثانية فى اغسطس من نفس العام، حين توجه الآلاف من المصريين لحصار السفارة، وانزلوا علمها لأول مرة منذ 1979، ردا على قيام القوات الاسرائيلية بقتل خمسة جنود مصريين على الحدود فى 18 اغسطس 2011، بدون ان يقدموا اى اعتذار، وبدون اى رد فعل من الحكومة المصرية او من المجلس العسكرى.
وقطع عيد الفطر المبارك تظاهراتهم، ليكتشفوا ان الحكومة المصرية، قد استغلت اجازة العيد، لتبنى جدارا عازلا، من الخرسانة المسلحة، حول السفارة لحمايتها من المتظاهرين. فما كان منهم الا أن عادوا بأعداد مضاعفة لحصار السفارة مرة أخرى وفى ملحمة شعبية غير مسبوقة وبأدوات بدائية، استطاعوا فى ساعات قليلة من يوم 9 سبتمبر 2011 ان يهدموا الجدار العازل، واستطاع بعضهم تسلق المبنى، واقتحام غرفة أرشيف ملحقة بالسفارة، لتنقلب الدنيا، ولتقف (اسرائيل) والبيت الابيض على قدم وساق، وليصدر الرئيس الامريكى تعليماته للادارة المصرية بالتدخل الفورى لحماية موظفى السفارة الاسرائيليين وانهاء هذا الموقف فورا.
وبالفعل تدخلت القوات، بعد اتصال أوباما، لفض المتظاهرين ولإنهاء الحصار، وسقط فى الفض عدد من الشهداء، وتم اعتقال العشرات. وكانت هذه هى المرة الاولى بعد الثورة التى تتجرأ فيها السلطة وتعيد استخدام القوة لضرب المتظاهرين وتفريقهم. وفى اليوم التالى تم اعلان حالة الطوارئ.
ولكن الاهم من كل ذلك، انه منذ تلك اللحظة، اختفى الاسرائيليون عن الانظار، وأغلقوا مقر السفارة الذى كبس على انفاسنا اكثر من ثلاثين عاما.
لم تكن السفارة، مجرد رمز لوجود العدو الصهيونى فى مصر، بل كانت قبل ذلك وبعده، رمزا لكل النظام الحاكم؛ نظام كامب ديفيد الذى أسسه السادات وثبت دعائمه حسنى مبارك.
كان شباب الثورة المصرية هو الذى فعل ذلك. وهو الذى ارغم (اسرائيل) على الاعتذار عن قتل الجنود المصريين، وليس الدولة المصرية بكل هيلمانها وهيبتها ومؤسساتها.
ولم تكن هذه هى نهاية المطاف، بل واصل عديد من الشباب نضالهم من أجل توظيف ما اتاحته الثورة من حريات وأدوات للتواصل الجماهيرى، فى دعم القضية الفلسطينية والدفاع عن الفلسطينيين فى مواجهة الاعتداءات الصهيونية فى نوفمبر 2012، وفى توعية الناس بسوءات نظام كامب ديفيد والمعاهدة، وطالبوا بقطع العلاقات وسحب السفراء، ونظموا مئات الزيارات الى غزة عبر معبر رفح بعد ان كانت محرمة ومحظورة عليهم. ونشطت لجان الدعم والإغاثة ونصرة القدس والأقصى. وانطلقت سلاسل من المؤتمرات والمحاضرات فى كل ربوع مصر، فى نقاباتها ومقرات أحزابها الوليدة، بل فى الشوارع والميادين، تحاول احياء الوعي بالمشروع الوطنى فى مواجهة المشروع الامريكى الصهيونى.
صحيح ان الطريق كان لا يزال طويلا، ولم نتمكن من اسقاط المعاهدة ولكن أجواء الحرية مكّنت القوى الوطنية حينذاك من كسب أرض جديدة كل يوم. لقد كان الوضع مبشرا.
ولقد عبر عديد من القادة الصهاينة عن قلقهم البالغ من هذه الحالة الشعبية، بقولهم ان (اسرائيل) اعتادت دائما ان تتعامل مع القصور العربية، ولكنها لم تعتَد ابدا على التعامل مع الشارع العربى الذى يعاديها ويكرهها ويرفض الخضوع لضغوطها وتهديداتها. وان الربيع العربى قد جعل من الرأى العام العربى رقما مهما وشريكا فى صناعة القرار العربى.
ولقد ظلت سفارة (اسرائيل) مغلقة، الى أن تـم افتتاح مقرا جديدا لها بعد أربع سنوات بالتمام والكمال فى التاسع من سبتمبر 2015، فى ذات اليوم (ويا للعجب) الذى تم اغلاقها فيه.
محمد سيف الدولة
القاهرة في 9 / 9 /2021 م