العلاقة بين النقل والعقل يجب أن تتمتع بانسجام فيما بينها، قال أبو حامد الغزالي: (العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لم يتبين إلابالعقل، فالعقل كالأساس والشرع كالبناء، ولن يغني الأساس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن الأساس)، ما يعني أن العقل والنقلكلاهما يصلان إلى المعرفة الإلهية بحسب الغزالي أي معرفة الله تبارك وتعالى، لكن على الرغم من أن العقل يبحث عن إجابات لكثير منالتساؤلات مثل من خلق الدنيا والكون والناس والحياة والهواء ورفع السماء والكواكب، كلها أسئلة مشروعة يضعها العقل لكل إنسان أياً كانتديانته وأياً كان موقعه، لكن هناك مسلمات لا يمكن للعقل البت بها والتساؤل حولها مثل الأمور الغيبية من مسألة البعث والآخرة وعقابوملائكة وما تحت القبور، هذه الأمور احتاجت إلى شهادة والشهادة كانت القرآن الكريم وبالتالي هذه الأمور أصبحت يقين لا يُسمح للعقلبالتشكيك قيد أنملة فيها ليس ما طرحناه فقط، بل كل ما جاء في كتاب الله العزيز هو يقين راسخ، دور العقل فيه تبسيط مقاصده ونقلها إلىدنيا الناس. وبالتالي كانت فكرة الغزالي في هذا الشأن أن وضع الخط الأحمر ما بين المعرفة العقلية وحدودها في العالم الحسي، وما بينالمعرفة الدينية وما تضم من غيبيات.
حجة الإسلام كان يعتمد بعلومه الشرعية على الدين كمصدر أساسي لها من حيث أنها أصول كلية، والعلوم الأخرى هي غير شرعية لكنيرشد إليها العقل والتجربة، فالإمام وضع العقل في مقام محمود لديه حيث كان يستخدم العقل وأدلته في شرح أصول الدين وأحكامالشريعة الإسلامية، وأيضاً كان يستعمل العقل للرد على المخالفين والغلاة في عصره، وما يفهم من رحلة الإمام الغزالي هو أنه حصر العقلمع الشرع، العقل بالنسبة للإمام هو وسيلة وأداة للفهم والتحليل والتعليل والاستنباط والاستدلال.
عندما نتحدث عن الغزالي الفيلسوف، نتحدث عنه كفقيه وصوفي لمزجه الأمور بعضها ببعض، إلى جانب معركته في قضية العقل والنقل،التي شرحناها بإسهاب، لا بد من تبيان أن لحجة الإسلام طريقته الخاصة به وفلسفته مستمدة من التراث الإسلامي، يقول الإمام الغزالي:(من لا يحيط بالمنطق فلا ثقة بعلومه أصلاً)، البرهان المنطقي من وجهة نظر الإمام قاصر عن أن يصل بالإنسان إلى اليقين خاصة بالقضاياالإلهية كما أسلفنا أعلاه، أي (الغيبيات)، لأنها أعمق وأعظم من أن تدركها عقولنا، وبالتالي كانت إسهامات الإمام في الفلسفة واضحة، رغمنقد الكثيرين له، لكنه ظل دائماً منحازاً للفلسفة الإسلامية الخالصة، فكانت فلسفته من منطلق ديني لا من منطلق رواد هذا المجال كماالغرب، لكنه تعمق بالكل ليصل إلى حججه المنتمية إلى قناعاته المطلقة، وموقفه من الفلسفة كان موقفاً نقدياً يتناولها من حيث اتفاقهاواختلافها على أصول الدين.
من هنا، كان شك الإمام الغزالي، صاحب فضل عليه فهو الذي دفعه إلى البحث وطلب الحقيقة والتماس الإيمان، لذلك درس كل العلومالدينية والفلسفية الموجودة كانت في عصره، فلا عجب أنه حجة الإسلام، لطالما بحث عن البرهان في علومه ليحاجج خصومه وكل من يحاولنقد ما قام به، وبالتالي عرف الغزالي ما كانت تتوق إليه نفسه من المعارف وأدركها إدراكاً يأمن معه الخطأ.
الإمام أبا حامد الغزالي كان حجة الإسلام، كان عالمياً أصولياً وفقيهاً وفيلسوفاً ومنطقياً، التصوف لديه روح الإسلام، مهما تكن النتائج التيوصل إليها الإمام الغزالي فإن الذي نريد أن نتوقف عنده هو منهج الغزالي في محاولة فهم الآخر على حقيقته وتقديمه للآخرين على حقيقتهومحاورته ومحاججته على حقيقته أيضاً.
عندما بحثت في فكر حجة الإسلام، الإمام الغزالي وجدت الفلسفة والتصوف بين الروح والعقل، حيث جمع بين الريادة الفلسفية والموسوعيةالفقهية والنزعة الصوفية الروحية، ما يحكمه في كل تلك العلوم إطار محكم من العلم الوافر والعقل الناضج والبصيرة الواعية والفكر المتقدوهو كان ولا يزال علماً من أعلام المسلمين الموسوعيين الذين نستهل من علومهم إلى يومنا هذا.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.
المراجع:
1-انظر: زعموا أن الغزالي لا يعرف علم الحديث صبغة الله الهدوي – أكتوبر 2017.