تُدرك الدول العربية تدريجياً أن الرئيس بشار الأسد قد احتفظ بالسلطة في سوريا وأن عزله الإضافي لا معنى له، خاصة في ظل التطورات الأخيرة، لأن في السياسة وكما كنت أقول دائماً تبنّي موقف واحد مؤيد أو معارض، يضع المحلل أو الباحث في سقطات هو في غنى عنها، لأن المحاور الكبيرة والدول تحكم بالمصالح لا بالعواطف، أيضاً وربطاً مع أن إضعاف النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط ساهم بدوره في إعادة العلاقات مع دمشق.
ويبدو أن الاتفاقية المبرمة بين المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية، التي حدثت بشكل غير متوقع بالنسبة للكثيرين، بوساطة الصين، بدأت في التخفيف من حدة التصعيد في العديد من المشاكل في الشرق الأوسط، على الرغم من أن ذلك حدث بدرجات متفاوتة وأعطى نتائج مختلفة.
قد يكون المظهر الأول لهذا التأثير هو تطبيع العلاقات بين السعودية وسوريا، ففي 23 مارس/ آذار، أصبح معروفاً للجميع أن سوريا والمملكةالعربية السعودية اتفقتا على إعادة فتح سفارتيهما، اللتين أُغلقتا بسبب انقطاع العلاقات الدبلوماسية في عام 2012، كما تعتزم الرياض استئناف عمل قنصليتها في دمشق بعد انتهاء شهر رمضان المبارك نهاية أبريل/ نيسان الجاري.
بالتالي، إن دفء العلاقات بين السعودية وسوريا سيكون خطوة مهمة في تقريب دول الخليج العربية من نظام بشار الأسد الذي قاطعه زعماء المنطقة العربية (باستثناء سلطان عمان) بعد بدء الأزمة السورية في عام 2011، وحتى قبل ورود تقارير عن عودة العلاقات السورية – السعودية، تم الترحيب بالأسد على السجادة الحمراء في 19 مارس/ آذار خلال زيارته الرسمية الثانية إلى أبو ظبي، وقبل ذلك بشهر قام بزيارة عمان، حيث تم استقباله أيضاً على رأس دولة صديقة.
ويبدو أن عزلة سوريا في العالم العربي ستنتهي قريباً، والسعودية تريد المشاركة في هذه العملية والاستفادة منها لصالحها، بالإضافة إلى ذلك، راقبت السعودية عن كثب رد الفعل على استئناف العلاقات بين الإمارات وسوريا. واتضح للرياض أن الغرب غير مستعد الآن لاتخاذ أي إجراءات فاعلة ضد الدول التي انتهكت العزلة السياسية عن دمشق.
وبالفعل عارضت الولايات المتحدة بشدة تطبيع العلاقات العربية مع سوريا، خاصة بعد زيارة رئيسها الثانية للإمارات.
ومع ذلك، يميل الشرق الأوسط الآن إلى تجاهل مثل هذه التحذيرات، حيث لم تكن الولايات المتحدة، بل الصين، التي مارست ضغوطاً على إيران، قادرة على تزويد المملكة العربية السعودية بضمانات أمنية من هجمات الحوثيين اليمنيين المدعومين من طهران، بينما سحبت الولايات المتحدة أنظمة دفاعها الجوي باتريوت من السعودية على خلفية قصف الحوثيين لمنشآت شركة أرامكو السعودية ولم تستطع تقديم خطة متماسكة لحل الأزمة اليمنية.
بالإضافة إلى الإمارات، تعتقد دول مثل الجزائر والعراق وعمان وتونس والأردن والبحرين ومصر أنه يجب إعادة النظر في استراتيجية العزلة والعقوبات ضد سوريا. يتردد صدى هذا النهج الآن في “الشارع العربي”، وهو أمر مهم للغاية بالنسبة للمملكة العربية السعودية حيث تحاول القيادة في الرياض الآن الاستماع إلى الأصوات، وبدأ يُنظر إلى استعادة العلاقات مع سوريا بفهم ضمني، على الرغم من أنه قبل بضع سنوات كان من الممكن أن يتسبب في انتقادات خطيرة في المجتمع العربي.
مصالح مشتركة
في بعض الأمور، يمكن للمملكة أن تعتمد على سوريا كشريك، وهذا ينطبق، على سبيل المثال، على لبنان، خاصة وأن سوريا ولبنان تتمتعان بعلاقات سياسية واقتصادية وثقافية ودينية طويلة الأمد مع بعضهما البعض، وكذلك مع المملكة العربية السعودية وإيران، ويمكن أن تستفيد بشكل كبير من استعادة العلاقات بعد اتفاقيات بكين، من خلال الاستثمارات المستقبلية في ضوء كثرتها في سوريا بعد أكثر من 12 عاماًعلى الحرب.
أيضاً، ربما تود السعودية إشراك سوريا في لعبتها الخاصة في لبنان، أب في احتواء نفوذ إيران وحزب الله هناك، خاصة وأن التحالف الإيراني-السوري الذي تطور في السنوات الأخيرة، ادى إلى تعزيز نفوذ حزب الله الموالي لإيران في لبنان على حساب شركاء الرياض المحليين، لكن الآن تتوقع المملكة العربية السعودية تنازلات كبيرة في لبنان – من طهران ومن دمشق.
بديل لإيران
الآن، تساعد السعودية والإمارات بشكل فعال سوريا المتضررة من الزلزال، بعد أن علقت الولايات المتحدة جزئياً العقوبات المفروضة على دمشق لأسباب إنسانية، ومثل هذا الدعم يمكن أن يرسل إشارة مهمة للقيادة السورية تجبرها على إعادة التوازن في علاقتها مع إيران والدول العربية لصالح الأخيرة، حيث لا تملك طهران حالياً أموالاً إضافية لدعم دمشق، على سبيل المثال، رفضت إيران إمداد سوريا بالمنتجات النفطية بالائتمان، وطالبتهم بالدفع مقدماً.
وهكذا فإن عودة سوريا إلى الوطن العربي قد تضعف محور المقاومة للغرب الذي بنته إيران عبر بغداد ودمشق وصولاً إلى بيروت، والآن تواصل دمشق البحث عن خيارات لتقليص النفوذ الإيراني في بلادها وتقليل انتقادات العواصم العربية لهذه القضية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن روسيا، هي التي لعبت دوراً رئيسياً في استئناف عملية تطبيع العلاقات السعودية – السورية، في المقابل، فإن الخلفية الروسية للتطبيع السعودي السوري تحمل بالتأكيد زاوية معادية لأمريكا.
كما أن مثل هذه الخطوات من جانب السعودية، خلافاً لنهج واشنطن، هي دليل آخر على تراجع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط بعد اتفاقيات بكين، المملكة العربية السعودية، التي اتخذت مساراً نحو تطبيع العلاقات مع دمشق، تواصل بذلك تنويع علاقاتها الخارجية، مما يمنح موسكو الفرصة لمواصلة الاعتماد على الرياض كشريك مهم لها في الشرق الأوسط.
بالنتيجة، المخاض الأخير لحقبة ذهبية جديدة بدأ في التشكل، خاصة وأن شعوب العالم أجمع منهكة من الحروب، التي قوضت اقتصاداتها، وبالأخص الحرب الأوكرانية، لإحياء الاقتصاد العالمي، لا بد للمملكة أن تبحث عن مصالحها في ضوء الواقع الجيوسياسي المرسوم، لأن سوريا الآن تشكل ساحة تنافس إقليمية ودولية، وهذا ما كنا نرمي إليه دائماً، بأن الابتعاد عن العواطف كان ليكشف الرؤية المحجوبة لدى البعض، ففي السياسة لا عدو دائم ولا صديق دائم، والمعارضات التي تحمل برامج إصلاح حقيقية سيكون لها الدور البارز في هذه الحقبة،أما من تزمت ووقف وراء موقف متشدد، مع الأسف أقولها وبصراحة “لقد خسرت”، حتى تركيا نفسها التي كانت يوماً تقف ضد سوريا الآن التسوية استوت وقاب قوسين أو أدنى من عودة التطبيع التركي – السوري، وفي حرب المصالح، الجميع رابح، إن تم اللعب بالأوراق الصحيحة الرابحة.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.