لم ينقضِ القرن الهجري الأول، إلا ومعالم ضبط الرواية والتثبت من نقل الأخبار قد وضعت له أسس، وضوابط، منعته بأن يكون تناقلاً عشوائياً لا سيما في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنطالع في كتب تأريخ التشريع، وفي المؤلفات في مناهج المحدثين، آثاراً وأخباراً منقولة من بطون المصنفات والمسانيد عن الصحابة في القرن الهجري الأول، كيف كانوا يتثبتون من الأخبار والأحاديث، ويتثبت بعضهم من بعض، فبعضهم يهاجر لطلب حديثٍ واحد، يريد أن يسمعه ممن سمعه من رسول الله صلة الله عليه وآله وسلم، مع أنه سمعه منغير الذي سمعه من رسول الله، وأحدهم يستحلف صاحبه إن كان قد سمع ذلك.
ومنهم من أوقع الإشهاد أي أن يشهد له شاهد من أصحابهم وكلهم عدولاً على أنه قد سمع هذا الحديث، فما انقضى القرن الأول الهجري إلا وهذه الأسس والضوابط والمعايير موجودة لقبول الأخبار المنقولة، وتلقاها عنهم التابعون بنفس السياق والأسلوب وكانت وهناك صحفٌ كتبت في تلك الحقبة، منها صحيفة علي بن أبي طالب عليه السلام، في الفرائض، وصحيفة بن عباس وقد أخذ طرفاً منها من صحيفة على وقيل هي جزء منها والعبرة بأنهم كانوا يكتبون ما يتثبتون منه ويدونونه ، وكذلك فلجابر بن عبد الله رضي الله عنه هو الآخر صحيفة مشهورة، وصحف أخرى فلم ينقض ذاك القرن حتى تلقى القرن الذي بعده منهجا وطريقة وموروثا مكتوبا ، ثم كتبت بعد ذلك صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وصحيفة بريد بن أبي بردة حفيد أبي موسى الأشعري عن جده أبي موسى وهكذا ، كما كان هناك مصنف اتأخذت صفة الصحيفة، وهي التي تجمع بين دفتيها، عدداً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يكون صاحبه قد استوثق منه وتثبت حتى كتبه، فلما دخل القرن الثاني الهجري، وبدأ أعداء الأمة يدسون فيها أحاديث وتأويلات لآيات القرآن الكريم، بعد أن عجزوا عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو آية صغيرة، فبدأ الأعداء يدخلون تأويلات لتلك الآيات لا تمت إلى القرآن الكريم بِصلة، وإلى المعنى المراد من الآية بِصلة، ويلفقون الأحاديث ويضعونها ويكذبون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تشويهاً للدين وتضييعاً لحقيقة الشريعة، فكان هنا من تصدى لهم في القرن الثاني كعمر بن عبد العزيز الذي كتب إلى عماله في الأمصار بأن يجمعوا له حَمَلَة الحديث النبوي وحُفّاظَه ليكتبوا ما يحفظونه مما صح عندهم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا بدأت حملة التدوين رسمياً بأمر خليفة المسلمين وأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ، بعد أن كانت هناك مدونات متفرقة.
ولقد عنونت المقال بالعنوان الظاهر للقاريء أعلاه ليكون على بينة من أمره في منهج السادة العلماء في تلقي العلم ومن أين يبدؤون وكيف يتدرجون ، إذ كانوا يدخلون عند المؤدِّبين من العلماء سنين قبل أن يجلسوا إلى علماء الحديث والفقه ، وكانوا يلازمون علماء الحديث والفقه سنين بعدها قبل أن يتكلموا.
– إن التأريخ لا يمكن أن يُنظر إليه بعينٍ واحدة، بل يجب أن تكون العينان متفتحتان للنظر في التأريخ، كي لا تغيب عنهما زاويةٌ من زواياه، بالتالي، إن تأريخ الأمة حافلٌ بالأمجاد والبطولات، والانتصارات والإنجازات الحضارية الرائدة والرائعة، التي قادت وسادت قروناً من الزمن، وبعض أهل المنجزات وقعت منهم أخطاء، كما قد وقع لغيرهم، لأنهم بشر، فالأخطاء إن صحت نسبتها إليهم، مع ما قدّموا ومع ما أنجزوا، لايمكن أن تغطي على إنجازهم، وعلى تميزهم الحضاري.
أيضاً، إن الكلام عن الإسناد، وكون الإسناد من الدين كما قال “ابن سيرين”، هو دعوة إلى العقلانية، ودعوةٌ لالتزام الطريق الصحيح، لأخذ العلم من موارده الأصلية، وهذه بحد ذاتها، تُنهي كثيراً من الخلافات الفكرية والمذهبية التي بنيت على غير إسناد، فالاتصال في الإسناد يُنهي خلاف بخلاف الكلام والمناكفات بلا إسناد ولا اتصال.
وعندما نتكلم عن الأسانيد، نتكلم عن خاصيةٍ اختص الله تبارك وتعالى أمة محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، فلا داعي لأن يتشنج من هو مفلسٌ في هذا الباب، فلما يجد نفسه أنه لا يمتلك علم ومعرفة هذا الأمر، مباشرةً يلجأ إلى أسلوب التعنت والتزمت المذهبي، والتعصب الطائفي لكي يعمّم على الآخرين حقيقة جهله بهذا العلم، ولكي يغطي على القيمة العلمية لهذا العلم.
أيضاً لدينا مسألة أن كل الصحابة مطعون فيهم، وكل يوم يتم الطعن بصحابي جليل، فهذه المسألة لن تنتهي، والهدف منها واضحٌ ومقصود، لخدمة المشروع الغربي الأمريكي الصهيو إنكليزي، لأننا كنا نسمع يوم كنا صغاراً أن أبا بكرٍ وعمر غير محبوبيَنِ عند طرفٍ من الأطراف في الأمة الإسلامية، ثم بعد ذلك أصبحت أم المؤمنين السيدة عائشة، ضمن هؤلاء الاثنين، تلاها عثمان وغيرهم، فصرنا نسمع أنهم ملعونين على لسان فئة من فئات المسلمين، ثم دخل بالقائمة أبو هريرة وعبدالله بن عمر وغيرهم، بالتالي إدخالهم له هدف واضح ومقصود وهو دق إسفين بين أبناء هذه الأمة، وللقضاء على إرث هذه الأمة، فقد فهمنا وعلمنا من خلال الأسانيد لا من خلال التعصب الطائفي والعقلية الطائفية الضحلة، لقد فهمنا وعلمنا أن معاوية بن أبي سفيان أساء للإمام علي بن أبي طالب، وأن علياً أولى بالحق والخلافة من معاوية، وأن الحق مع علي، وفهمنا وعلمنا بالأسانيد ومن خلال اتصال الروايات ذلك، لا من خلال العقلية الطائفية.
كما فهمنا أيضاً أن يزيد بن معاوية عليه من الله تبارك وتعالى ما يستحق، أنه من قتل الحسين بن علي عليهما السلام، وأن جمهور من الأمة أجاز لعن يزيد، وهذا كله موجود بالأسانيد، لا بالعقلية الطائفية الضحلة، التي يمتلكها الطائفي، وهناك فريق من الأمة، أدنى من الجمهور عدداً، قال: “أما يزيد فلا يُترضى عنه ولا يُترحم عليه، ولكن في لعنه نتوقف”، فالوسط بين هؤلاء أن نقول “عليه من الله ما يستحق، وعامله الله بما جنى”، خاصة وأن جريمة قتل سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام لا تُغتفر، ولا يمكن لنا عاطفياً أو مزاجياً أن نغفرها.
هذا كله، بالأسانيد المتصلة علمنا ذلك، وعلمنا كذلك أن القاتل للإمام الحسين هو شمّر بن ذي الجوشن، وهو معروف من يكون وأين صارت وجهته بعد ذلك، لما هرب بعد قتل سيد الشهداءـ، علمنا ذلك بالأسانيد المتصلة لا بالعقلية الطائفية الضحلة، بالتالي، صاحب العقلية الطائفية لا يستطيع أن يخدم الأمة في بنائها الحضاري ولا في نهضتها الحضارية ببساطة لأنه إنسان ليس لديه إسناد، كما ليس لديه رموز حضارية وبناة حضارة، لأن ليس لديه خلفاء أربعة راشدين، أصحاب فتوحات وأصحاب عمران وحضارة وسياسة حكم، وليس لديه صحابة نقلوا أهم مقوم من مقومات الحضارة وأهم ركن فيها وهو الدين، بالتالي، ليس لديه صحابة نقلوا الدين وليس لديه في تأريخه قادة وملوك، كملوك بني العباس وبني أمية، بنوا وشيّدوا وأقاموا الصروح الدينية والعلمية والعمرانية والطبية وغير ذلك.
بالتالي، إن صاحب العقلية الطائفية الضحلة، مبتور، فكيف له أن ينبي حضارة ويخدم هذه الأمة، فلا يقدم أي شيء مفيد للإنسانية، بل يمكن له أن يقدم شيئاً واحداً للحضارة وهو الإرث الفلكلوري، يمكن أن يكون لطمة أو ضرباً بالجنازير، كطقسٍ يشبه طقوس الهنود، فكيف تُبنى الحضارات في وجود مثل هكذا عقلية؟!
بالتالي، الإسناد علم مستقل بذاته، وهو علم الأمة الإسلامية وهناك علماء أجلّاء حملوا على عاتقهم إغناء حضارة هذه الأمة بالقول الصحيحالثقة، فأن يأتي أحدهم ويشكك هذا يعني أن هناك خلل كبير يجب إصلاحه، لأن الإسناد من الدين، شاء من شاء، وأبى من أبى، وهذا هو القول الفصل.
عبدالعزيز بن بدر القطان