لا أريد أن أبدو متشائمًا في الشأن السوداني، ولكن الواقع مؤلم؛ فالصورة قاتمة، بسبب الحرب الأهلية الدائرة حاليًا على السلطة والنفوذ بين جنرالين، لكنّ الحقيقة أنّ الأمر هو أكبر منهما بكثير؛ فما هو مخطط ومعلن عن السودان هو تقسيمه إلى أربع دويلات: دويلة النوبة بضم بعض الأجزاء الشمالية من السودان مع دويلة النوبة في الأراضي المصرية، وتكون عاصمتها أسوان. ودويلة الشمال السوداني الإسلامي. ودويلة الجنوب السوداني المسيحي، (وهي التي تم انفصالها بالفعل، ليكون أول فصل رسمي طبقًا للمخطط)، وأخيرًا دولة دارفور، وهي الأقرب للانفصال حيث المؤامرات مستمرة لفصلها عن السودان بعد الجنوب مباشرة، لإنها غنية باليورانيوم والذهب والنفط.
وعندما أقول: إنّ المخطط معلن، فإنّ ذلك يعود إلى عام 1982، عندما نشرت مجلة «كيفونيم» – التي تُصدرها المنظمة الصهيونية العالمية – وثيقة بعنوان «استراتيجية إسرائيلية للثمانينيات»، أعدّها برنارد لويس، تُرجمت إلى اللغة العربية، وقدّمها د. عصمت سيف الدولة، كأحد مستندات دفاعه عن المتهمين في قضية ما عُرف بتنظيم ثورة مصر عام 1988؛ ففي تلك الوثيقة يرد تقسيم السودان إلى أربع دويلات كما أشرتُ سابقًا، ولا أدري كيف غفل معدو الوثيقة عن ذكر دويلة خامسة في الشرق السوداني، وقد بدأت بعض بوادرها في الظهور؟ بل إنّ أهمية تلك الوثيقة لا تقتصر على تناول السودان وحده، وإنما الوطن العربي كله، ومن ذلك مثلا أنّ تقسيم العراق كان أحد أهداف العدوان الأمريكي، وهو أحد الأفكار الرئيسية، وما يحصل الآن في السودان هو ضمن الأفكار الواردة في تلك الوثيقة، وسواء كان جنرالات السودان يعون ذلك أم لا! فهم مجرد أدوات ينفذّون مخططًا مرسومًا سلفًا وليس سريًا، والضحيةُ هو الوطن والشعب السوداني الطيب، الذي لم ينعم قط بخيرات وطنه الوفيرة.
ولكيلا يكون الحديث عن السودان عاطفيًا، فإني أعود إلى ما كتبتُه يوم الثلاثاء 24 مارس عام 2009، في صحيفة «الشبيبة» العمانية بعنوان «تفتيت السودان.. مصلحة إسرائيلية»، وهو المقال الذي نشرتُه في كتابي «الطريق إلى القدس»، قلتُ فيه: «إنّ مثل العرب الآن وهم يشاهدون ما يشبه بداية نهاية السودان كمثل أناس دخلوا إلى المطعم ليتناولوا وجبة غداء أو عشاء، ولم يدروا أين وكيف تم إعداد هذه الوجبة الدسمة؟ وكم من الوقت استغرق طهيها؟ ومن الذي شارك في تجهيزها؟ وغير ذلك من الأسئلة، لأنّ الوجبة تم طهيها على نار هادئة وعلى مدى سنوات طويلة، وهو ما حدث بالضبط مع ما ينتظر السودان الآن من تفتيت في الشرق والغرب والجنوب، بطبخة إسرائيلية أمريكية غربية هادئة تؤتي أكلها الآن بعد سنوات طويلة من بداية الطبخة». وللأسف فإنّ الكلام عن تلك الطبخة صار له سنوات، ولكن العرب كما هم، ولا يدرون أنّ الدور – حسب المخطط المعلن – سيأتيهم واحدًا واحدًا حسب المخطط، والتفاصيل مذكورة بدقة.
إنّ الاهتمام الإسرائيلي بالسودان قديم يعود إلى فترة تأسيس الكيان، فقد كان ديفيد بن جوريون مؤسس إسرائيل الحقيقي أول من تنبه إلى ضرورة تطويق مصر وإضعاف العرب عن طريق استغلال التنوع الإثني والطائفي والمذهبي في المنطقة. وتشير الوثائق الإسرائيلية إلى أنّ بن جوريون أسس الانطلاق لفرضية رئيسية أقام عليها الإسرائيليون تعاونهم ودعمهم اللا محدود للأقليات العرقية والدينية في الوطن العربي، حيث أصدر أوامره إلى أجهزة الأمن للاتصال بزعامات الأقليات في العراق والسودان وإقامة علاقات مختلفة معها. وما حدث في السودان من انفصال الجنوب أولا، فقد ذكره كتابٌ صدر من مركز ديان لدراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بجامعة تل أبيب تحت عنوان «الاستخبارات الإسرائيلية في جنوب السودان» تأليف ضابط الموساد السابق العميد المتقاعد موشي فيرجي، جاء فيه أنّ اتصالات الموساد مع جون جارانج زعيم جنوب السودان الراحل، بدأت عام 1983، وأنّ جارانج زار إسرائيل ثلاث مرات، وأنّ علاقته كانت قوية مع سفير إسرائيل في نيروبي، وأنّ إسرائيل دفعت ما جملته 500 مليون دولار لمساعدة المتمردين، مقابل تعهد جارانج أن يفصل الجنوب عن الشمال نكاية في المسلمين والعرب، وهذا ما حدث فعلا. فهل سنقرأ بعد فترة كتابًا عن تفاصيل لقاءات نتانياهو مع جنرالات الحرب في السودان، ومنها لقاء الجنرال البرهان مع نتانياهو في كامبالا عاصمة أوغندا؟!
لقد ألقى آفي ريختر وزير الأمن الإسرائيلي الأسبق محاضرة حول التدخل الإسرائيلي في السودان، نشرتها الصحف الإسرائيلية يوم 10/10 /2008 فيها الكثير من الإشارات، وهي توضح للمهتمين كيف تسيطر إسرائيل على المنطقة، وممّا قاله ريختر: إنّ إسرائيل حين تبلور محددات سياساتها واستراتيجياتها حيال العالم العربي، فإنها تنطلق من عملية استجلاء واستشراف للمستقبل وأبعاده، وتقييمات تتجاوز المدى الحالي أو المنظور، وكانت هناك تقديراتٌ إسرائيليةٌ منذ بداية استقلال السودان أنه يجب ألا يُسمح له – رغم بُعده عن إسرائيل - أن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربي، لأنّ موارده إن استُثمرت في ظلّ أوضاع مستقرة ستجعل منه قوة يُحسب لها ألف حساب، وفي ضوء هذه التقديرات كان على إسرائيل أن تتجه إلي هذه الساحة وتعمل على مفاقمة الأزمات وإنتاج أزمات جديدة، حتى يكون حاصل هذه الأزمات معضلات يصعب معالجتها فيما بعد، وقال: «إنّ السودان يشكّل عمقًا استراتيجيًا لمصر، وقد تجسد ذلك بعد حرب يونيو سبعة وستين، عندما تحوّل السودان إلى قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري وللقوات البرية، فكان لابد أن تعمل إسرائيل على إضعاف السودان وانتزاع قدرته لبناء دولة قوية موحدة، لأنّ هذا من المنظور الاستراتيجي الإسرائيلي، ضرورة من ضرورات دعم وتعظيم الأمن القومي الإسرائيلي». والكلام واضحٌ؛ فبقدر ما هو موجهٌ ضد السودان لمواقفه السابقة الداعمة للقضايا العربية، فإنه موجهٌ إلى مصر في الأساس، فما يحدث في السودان لا بد أن يؤثر في مصر عاجلا أو آجلا.
وقد ذهب وزير الأمن الإسرائيلي الأسبق إلى أبعد من ذلك عندما كشف عن أنّ إسرائيل وعلى خلفية بُعدها الجغرافي عن العراق والسودان مضطرة لاستخدام «وسائل أخرى لتقويض أوضاع هذين البلدين من الداخل، لوجود الفجوات والثغرات في البنية الاجتماعية والسكانية فيهما».
لقد تبنّى جميع رؤساء الحكومات في الكيان الإسرائيلي خطًا استراتيجيًا في التعاطي مع السودان، الذي يرتكز على تفجير بؤر وأزمات مزمنة ومستعصية بداية في الجنوب، وفي أعقاب ذلك في دارفور، والآن في العاصمة الخرطوم؛ وكان لهذا الخط نتائج أعاقت وأحبطت الجهود لإقامة دولة سودانية متجانسة قوية عسكريًا واقتصاديًا قادرة على تبوؤ موقع الصدارة في العالمين العربي والإفريقي، وفي الحقيقة فإنّ الصراع الدائر حاليًا في السودان – بقدر ما هو له خلفيات معقدة ومتداخلة – إلا أنه بتخطيط خارجي وتنفيذ داخلي، حتى لا يجد السودان المناخ والوقت لتركيز جهوده باتجاه تعظيم قدراته. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا كانت ميليشيات قوات الدعم السريع استطاعت أن تواجه الجيش السوداني – بعتاده وطائراته وعدد أفراده – ألا يدل ذلك على قدرتها على الانفصال بدارفور؟!
ما يحدث في السودان ليس أزمة داخلية – كما يعتقد الكثيرون – حتى وإن كانت المسؤولية تقع على الجنرالات، بل هي أزمة تشارك فيها الأطراف الخارجية، ومنها بعض الدول العربية للأسف؛ وقد تتفاقم الأزمة لتصيب شظاياها دول المنطقة خاصة مصر، الجار الشمالي، التي تعاني من الوضع الأمني المنفلت في الجار الغربي (ليبيا)، وإذا لم يتكاتف السودانيون ويغلبوا مصلحة وطنهم، فإنّ السودان لن يبقى دولة مستقرة، وإنما سيكون دولة فاشلة، على غرار الكثير من البلدان العربية التي أصيبت في مقتل، بسبب الربيع العربي. ولن تفيد إسرائيلُ السودان في شيء، حتى وإن كانت قد عرضت المصالحة بين جنرالَي النزاع، وهي بحد ذاتها ظاهرة ملفتة للأنظار، فأين العرب؟ وأين جامعتهم العتيدة التي شرعت احتلال العراق وأعطت الضوء الأخضر لحلف الناتو لقتال ليبيا؟!. وفي اعتقادي أنّ قراءة وثيقة برنارد لويس مهمٌ جدًا، لمعرفة حاضر العرب وما يراد لهم في مستقبلهم.
وعودة إلى مقالي الذي نشرتُه عام 2009، فإنّ مخطط تفتيت وتقسيم السودان واضح ويجري تنفيذه؛ والسودان ليس إلا حلقة من سلسلة طويلة بدأت بالعراق، ويعلم الله بما ستنتهي طالما أنّ العرب بهذا الضعف!
زاهر بن حارث المحروقي
جريدة عمان: عدد الاثنين 8 مايو 2023م