تعاني مخرجات العلوم الاجتماعيَّة اليوم مُشْكلة التوظيف والتشغيل، وما زالت مؤشِّرات الواقع الاجتماعي بسلطنة عُمان وعَبْرَ ما تتحدَّث عنه أرقام الباحثين عن عمل، رغم عدم وضوح البيانات الإحصائيَّة ودقَّتها في هذه التخصُّصات تحديدًا، وما تبرزه المنصَّات الاجتماعيَّة عَبْرَ ارتفاع عدد هاشتاقات التدوين الاجتماعي المصغَّر «تويتر»، والتغريدات التي تفصح عن هموم ومطالبات الباحثين عن عمل من مخرجات التخصُّصات الاجتماعيَّة بمؤسَّسات التعليم العالي الحكوميَّة والخاصَّة ومن خارج سلطنه عُمان، إذ ما زالت تخصُّصات العلوم الاجتماعيَّة، سواء ما يتعلَّق منها بالعمل الاجتماعي والباحثين الاجتماعيين النَّفْسيين وغيرها، خارج تغطية التوظيف، وإن تمَّ ذلك فإنَّه يمارس على بطء واستحياء، وتشهد وجود تكدُّس في المخرجات، حيث مرَّ على تخرُّج بعضها ما يزيد على عَقْدٍ من الزمن، رغم المطالبات والمناشدات بأهمِّية فتح الأولويَّة للمخرجات السابقة، والتوظيف المباشر، وأنَّ هذه الفترة الزمنيَّة التي قضاها الخرِّيج بعد تخرُّجه كفيلة بأن تضْمنَ له استحقاق وظيفي يتناسب مع تخصُّصه دُونَ الحاجة إلى الإجراءات المعتادة والمنافسات غير العادلة.
إنَّ من بَيْنِ الأمور التي يُمكنُ طرحُها في تجاوز هذه المشكلة المتعلِّقة بمخرجات العلوم الاجتماعيَّة يكمن في إعادة هيكلة مسار التعليم الجامعي وضبط تخصُّصاته وفق آليَّات واضحة وإطار مؤسَّسي هدفه مراقبة التطوُّرات الحاصلة في سوق العمل للوقوف على طبيعته ونوع الطلب على الكفاءة الوطنيَّة والتخصُّصات التي تُشكِّل قِيَمة مضافة في اقتصاد المستقبل، والتعاطي منها في ظلِّ تشريعات مَرِنة وأنظمة حوافز مناسبة، وثقافة مؤسَّسيَّة تضْمنُ تحقيق معايير الإبداع والتجديد والابتكار، وإتاحة الفرصة للجامعات في تطوير برامجها الدراسيَّة والتدريبيَّة وتطويعها لتنسجمَ مخرجاتها مع احتياجات سُوق العمل المتجدِّدة والتخصُّصات العلميَّة والتقنيَّة والفنيَّة والمهارات، فإنَّ من بَيْنَ أسباب الارتفاع في أعداد مخرجات العلوم الاجتماعيَّة يرجع إلى تدنِّي مستوى الضبطيَّة والتقنين في تحقيق معادلة العرض والطلب، بالشَّكل الذي يضْمنُ القدرة على إلحاق مخرجات العلوم الاجتماعيَّة في سُوق العمل، وهو أمْرٌ نؤكِّد أهمِّية أن يحظى اليوم بمزيدٍ من الجديَّة والتوافقيَّة بَيْنَ مؤسَّسات التعليم العالي، كما نعتقد بأنَّ صدور قانون التعليم العالي يوفِّر فرصة لهذا التكامل الذي سيُعِيد هيكلة التخصُّصات ومستوى الاحتياج لها، إمَّا عَبْرَ توفير مساحة أكبر للتقييم والتصحيح والمراجعة حسب معطيات الحالة العُمانيَّة، مراعيًا وظائف المستقبل واحتياجات المؤسَّسات في القِطاعين العامِّ والخاصِّ؛ أو من خلال توسعة الخيارات التي تقرأ في مخرجات العلوم الاجتماعيَّة فرصة تحوُّل قادمة تؤكِّدها الضرورات والمواقف الحاصلة في المُجتمع الوظيفي، ومسار الإنتاجيَّة الذي يفترض أن يكون القائم المشترك بَيْنَ مؤسَّسات العمل، والذي لا يتحقق بالشكل الصحيح إلَّا إذا توافرت له الممكنات الدَّاعمة التي تحفظ له حضوره وفاعليَّته في عمل مؤسَّسات الجهاز الإداري للدولة والشركات ومؤسَّسات القِطاع الخاصِّ.
وحتى نكون أكثر واقعيَّة في رصد هذه الفرص، فعلى سبيل المثال، تمتلك وزارة التربية والتعليم بما فيها من مدارس ومراكز للتعليم المبكِّر ومَحْوِ الأُمِّيَّة وتعليم الكبار فرصًا كبيرة في احتواء مخرجات العمل الاجتماعي وبشكلٍ خاصٍّ الباحث الاجتماعي والباحث النَّفْسي، خصوصًا في ظلِّ ما أفصح عنه قانون التعليم المدرسي من أهمِّية حضور هذه التخصُّصات لتحقيق بيئة تعليميَّة عالية الجودة للطالب والمُعلِّم وأعضاء الهيئة التعليميَّة المختلفة، وبالتَّالي يُمكِن لهذه الوزارة أن تستوعبَ الآلاف من أصحاب هذه المؤهِّلات، وينطبق هذا الاحتياج أيضًا على كُلِّ قِطاعات الدولة الحكوميَّة، وكذلك مؤسَّسات القِطاع الخاصِّ والشركات في استيعاب مخرجات العلوم الاجتماعيَّة لتؤدِّي دَوْرها في رصد المتغيِّرات الاجتماعيَّة والنَّفْسيَّة الحاصلة في المُجتمع الوظيفي، وجملة التفاعلات والعلاقات وصراع الأدوار وانعكاسات ذلك على الأداءـ وما أكثرها ـ وتعظيم مسار الإيجابيَّة والتنافسيَّة وإدارة المشاعر وتحقيق الإنتاجيَّة في ظلِّ تنوُّع ظروف وبيئات العمل، خصوصًا ما يتعلَّق منها بتعظيم مفهوم ثقافة العمل المؤسَّسي، ورفع الجاهزيَّة الشخصيَّة، وتوظيف المنصَّات الاجتماعيَّة في التقليل من الهدر، وإعادة إنتاج واقع الموظف بروح إيجابيَّة ومسار تفاؤلي وتعزيز قناعاته حَوْلَ المُهمَّة التي يمارسها وما يتلقَّاه من منصَّات التواصل الاجتماعي من أفكار وموجِّهات بما يخدم مهمَّته ومسؤوليَّاته الوظيفيَّة، وما عليه تركه، بالشكل الذي يرفع لدَيْه من مستويات الإنتاجيَّة والتحفيز، ويؤصِّل فيه قَبول التحدِّي والبحث عن الذَّات، وتصحيح الممارسات، وهي موجِّهات تتجاوز المفاهيم القانونيَّة البحتة إلى مفردات أخرى لها علاقة بالبنية الفكريَّة والنَّفْسيَّة والتواصليَّة والسيكولوجيَّة والاجتماعيَّة والمهنيَّة، وصناعة النماذج ودراسات الحالة في بيئة العمل بالمؤسَّسات، والتي نتوقع أنَّ مخرجات العلوم الاجتماعيَّة تدرك تفاصيلها، وتتقن آليَّات التعامل معها.
إنَّ ما يطرحه مسار أنسنة العلوم الاجتماعيَّة وعَبْرَ إدماجها في التخصُّصات المعاصرة كالتقنيَّة والمؤسَّسات الصحيَّة والطبيَّة والتعليميَّة والاجتماعيَّة وغيرها، سوف يُسهم بشكلٍ كبير في خلق الوظائف واستقطاب هذه المخرجات، وإعادة إنتاج تخصُّصات العلوم الاجتماعيَّة في مؤسَّسات التعليم العالي والجامعات بشكل يتناغم مع طبيعة الاحتياج، ويبقى إضافة بعض المسارات في عمليَّات التدريس من حيث فرض بعض المساقات أو إضافة تدريسها باللغة الإنجليزيَّة، أو إدخال بعض البرامج والنماذج الحديثة في تدريس مخرجات العلوم الاجتماعيَّة ذات الصِّلة بالذكاء الاصطناعي والتقنيَّات الحديثة وإنترنت الأشياء والمهارات الناعمة والمهارات التقنيَّة، مساحة أمان تنعكس على امتلاكها خصائص وسِمات ومهارات تجعلها قادرة ومؤهَّلة لتتكيَّف مع متطلبات سُوق العمل والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة، وإتقانها مهارات إدارة المشروع، ومهارات التسويق والترويج، ومهارات الاتصال والتواصل واستخدام المنصَّات الاجتماعيَّة والرقميَّة، الأمْرُ الذي يجعل منها مائدة وظيفيَّة تستوعب هذه المخرجات؛ فإنَّ من شأن حضور الباحثين الاجتماعيين والممارسين النَّفْسيين وغيرهم في مؤسَّسات القِطاعيْنِ الحكومي والخاصِّ أن يستجيبَ لمعطيات التحوُّل في المُجتمع الوظيفي وترقية العلاقة التكامليَّة بَيْنَ السلوك والإنتاجيَّة، لضمان نُمو الحافز وإدارة المشاعر وتعميق منظور الولاء والانتماء للمؤسَّسة، ورفع سقف ما تقدِّمه من خدمات توجيهيَّة وإرشاديَّة وقانونيَّة، لتحقيق الجودة والإنتاجيَّة والحفاظ على الميزة التنافسيَّة والترويج لهُوِيَّة المؤسَّسة.
على أنَّ التأكيد على أهمِّية استيعاب مؤسَّسات القِطاع الخاصِّ والشركات للباحثين الاجتماعيين والممارسين النَّفْسيين ضرورة تحتِّمها طبيعة التفاعلات الحاصلة في مُجتمع الوظيفي بالمؤسَّسات والشركات، وما يفرضه واقع العمل من تحدِّيات ومنغِّصات قد يواجهها الموظف أو العامل كنتاج للتسريح، والفصل التعسفي الذي يواجهه، وخصم الأجور، وفسخ العقود، وتوقُّف الترقيات، وضعف الحوافز والمكافآت، وتأخير استحقاقات الرواتب، وتدني مستويات الأمان والسلامة في بيئة العمل، وحجم الاختلال والفجوة الحاصلة في معيار الثقة في الكادر العُماني، ولغة الفوقيَّة والسلطويَّة والمزاجيَّة وفرض سلطة الأمْرُ الواقع التي يتعامل بها المسؤول الوافد، وتحجيم مساحة الحركة الممنوحة للموظف العُماني في التعاطي مع ظروفه الشخصيَّة والاجتماعيَّة، وغيرها من الممارسات السلبيَّة والظواهر التي باتت تُعبِّر عن حالة من التذمُّر والامتعاض التي يعيشها الموظف والعامل في بعض مؤسَّسات القِطاع الخاص والشركات، حيث أشارت تقارير الاتحاد العام لعمَّال سلطنة عُمان إلى جملة من القضايا الاجتماعيَّة والنَّفْسيَّة التي باتت تؤثِّر في حياة الوظف والعامل، ومن بَيْنها: تأخير بعض الشركات في صرف الأُجور أو الامتناع عن صرفها لعدَّة أشْهُر، وخصم من الأجر، وعدم صرف الأجر، والإخطار بإنهاء الخدمة، وإجبار العمَّال على الخروج في إجازات بدُونِ أجر، وخصم مدَّة الحجر الصحي من الإجازات السنويَّة، كما وردت العديد من المطالبات والشكاوى المتعلِّقة بتحسين ظروف بيئة العمل وشروطها، وعدم التزام بعض المؤسَّسات بالمعايير والاشتراطات الخاصَّة بالصحَّة والسَّلامة المهنيَّة، وقد بلغ عدد الشكاوى العمَّاليَّة وحالات إنهاء عقود العمل للقوى العاملة الوطنيَّة في الفترة من (2019-2022) ما عدده (4807)، وأنَّ إجمالي محاضر التسويات واتفاقيَّات العمل الجماعيَّة في العامَيْن 2020 و2021 بلغ (915)، ونتج عنه تحويل بعض المؤسَّسات للادعاء العامِّ من خلال الجهات المختصَّة. الأمْرُ الذي يبرِّر ضرورة هذا التوجُّه ومراقبة العمل به.
وتبقى هذه المعطيات تفاصيل قد لا يُلتفت إليها في المؤسَّسة، ولكنَّها ذات أثَر سلبي على كفاءة أداء الموظف وإنتاجيَّته، وتُعكِّر من مزاجه، وترفع درجة القلق النَّفْسي لدَيْه، فالموظف كائن بشَري اجتماعي بحاجة لمَنْ يأخذ بِيَدِه، ويطبطب على كتفه، ويفهم مشاعره ويحتضن مبادراته، ويستمع له وينصت إليه، ويؤسِّس معه نماذج عمل في الحدِّ من تأثير هذه الصدمات عليه أو تأثُّره بها، ويأتي دَوْر الباحث الاجتماعي والنَّفْسي في تكييف هذه المعطيات مع الحياة المهنيَّة للموظف والعامل وفق أساليب راقية وأدوات مقنَّنة وحوارات تحمل في ذاتها أبعادًا إنسانيَّة ولغة تواصليَّة تتقاسم المؤسَّسة معه همومه وطموحاته وأحلامه ومبادراته، فإنَّ الكثير من القناعات السلبيَّة التي باتت حاضرة في سلوك الموظف، أو يتأثر به من معلومات وأفكار عَبْرَ منصَّات التواصل الاجتماعي ومشاهير السناب شات والتيك توك وموضة المدرِّبين، وغيرهم، بحاجة إلى مصدر معرفي وفكري ونفْسي أكثر ثباتًا وهدوءًا واتزانًا ومهنيَّة، وينطلق من معايير وأُطُر وثوابت أصيلة في حياة المؤسَّسة، الأمْرُ الذي يجعل من وجود مُهمَّة الباحث الاجتماعي والممارس النَّفْسي في المؤسَّسات والشركات مدخلًا مُهمًّا في التقليل من الهواجس السلبيَّة والقناعات غير السارَّة التي بات يسقطها الموظف أو العامل على المؤسَّسة لمجرَّد تصرُّف عفوي من مسؤوله المباشر أو زميله في العمل.
أخيرًا، لنتصوَّر ماذا لو التزمت الشركات التي يزيد عدد موظفيها عن 100 موظف، على توفير هذه الوظيفة؟ لا شكَّ بأنَّها ستُشكِّل رقمًا صعبًا يستوعب أعداد الباحثين عن عمل من التخصُّصات الاجتماعيَّة والنَّفْسيَّة الذين ينتظرون هذه الوظائف لسنوات عديدة، وتبقى الإشارة إلى أنَّ قانون العمل وقانون الحماية الاجتماعيَّة يحملان من المحطَّات والموجِّهات والمعطيات القادمة ما يؤكِّد الحاجة إلى وجود الباحث الاجتماعي والممارس النَّفْسي في هيكل المؤسَّسة. فهل سيُعاد النظر في ملف الباحثين عن عمل من تخصُّصات العلوم الاجتماعيَّة؟ وهل سيفصح قادم الوقت عن إلزام المؤسَّسات الحكوميَّة والشركات ومؤسَّسات القِطاع الخاصِّ بتعيين الباحثين الاجتماعيين والممارسين النَّفْسيين كداعم لتطبيق قانون العمل وقانون الحماية الاجتماعيَّة؟
د.رجب بن علي العويسي