يطرح موضوعنا جملة من التساؤلات التي بات البحث فيها ضرورة تتطلبها المرحلة الانتقاليَّة لبناء عُمان المستقبل وتحقيق رؤيتها الطموحة 2040، والمتمثلة في: كيف يحافظ الإعلام الرَّسمي على حضوره الواسع في الفضاء الاجتماعي المفتوح في ظلِّ سيطرة القوى الجديدة (الفضاء الإعلامي الخاص والفردي، مشاهير المنصَّات الاجتماعيَّة والإعلانات والدعاية الرَّقميَّة، شبكات التواصل الاجتماعي) على المشهد الإعلامي؟ وكيف يمكن أن يستفيد الإعلام الرَّسمي من المميزات التنافسيَّة في الإعلام الشخصي والإعلام الخاص لضمان توجيه الأنظار للرسالة الإعلاميَّة الرَّسميَّة، وحشد تأييد مُجتمعي لها إذا ما سلمنا بأنَّ نجاح الرسالة الإعلاميَّة لا يكتمل، إلَّا بتلقِّيها وتقبُّل الجمهور لها واندماجه مع أُطروحاتها البرامجيَّة؟ وكيف يمكن أن يضْمنَ الإعلام الرَّسمي تحقيق معادلة الثبات والقوَّة في استيعاب حجْم الفرص والتفاعلات والمميِّزات الإيجابيَّة في الإعلام الخاص والإعلام الفردي بما يضْمَن استمرار هيبة الـتأثير فيه وقوَّة الأثر الذي يحدِثه وبما لا يفقده توازنه أمام القوى الإعلاميَّة الجديدة؟ ثمَّ في المقابل هل على الإعلام الرَّسمي البحث في صناعة المؤثِّرين الإعلاميين لصالح صناعة خيار المنافسة والشفافيَّة والمهنيَّة في الإعلام الرَّسمي مع الاحتفاظ بقواعد العمل والتثمير فيها، وتوجيه الأنظار إليها باعتبارها ميزة تنافسيَّة تؤهل الإعلام لصناعة الفارق وخلق الفرص وإنتاج الحلول وتضْمنُ توجيه الأنظار المُجتمعيَّة والجماهير إليه؟ وأخيرًا كيف يمكن للإعلام الرَّسمي أن يصنع مساحة قوَّة ويضْمنَ خيارات أوسع لتمكين إعلام المحافظات وإعلام المؤسَّسات من القيام بِدَوْر أكثر فاعليَّة ومهنيَّة في التعريف بالميزة التنافسيَّة لها؟
عليه، لَمْ يَعُد البحث في التعاطي مع متطلبات القوى الجديدة الفاعلة وما تفرضه من واقع جديد ومتغيِّرات متسارعة وأحداث متتالية ومسارات متعدِّدة قد تفوق الإعلام الرَّسمي في جاهزيَّتها وممكناتها ومُكوِّناتها، وتتفوَّق عليه في أحايين كثيرة، حالة مزاجيَّة بقدر ما هي خيار وطني يجب أن تُجنَّد الجهود من أجْل بلوغه بحيث توجّه البنية الأساسيَّة الناعمة المتمثلة في السياسات والتشريعات وقواعد العمل والدراسات الاستشرافيَّة لتضيف على مبادئ المهنيَّة والاحترافيَّة والحكمة والاستيعاب مع المحافظة على درجة عالية من الإنجاز والجاهزيَّة وسلاسة التفاعل وسرعة الاستجابة وكفاءة الأدوات وتنوُّع الآليَّات وتعدُّد الأساليب التي تقرأ معطيات الواقع وتدير المشاعر وتوفر مساحة أوسع لخلق روح التناغم والشراكة من الجمهور، محطَّة تحوُّل لها قوَّة التأثير والاحتواء والاستيعاب والاستباقيَّة المبكِّرة في رسم ملامح الإعلام المرحلة؛ فإنَّ إسقاط ذلك على الحالة العُمانيَّة بكُلِّ تجلِّياتها يَلقى على الإعلام الرَّسمي مسؤوليَّة البحث في جوهر العمل المرتبط بالتحدِّيات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وقضايا الأمن الاجتماعي في ظلِّ التداعيات الاقتصاديَّة المرتبطة بارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وأزمة الغذاء، والخروج من أزمة الاعتماد على النفط، وارتفاع أعداد الباحثين عن عمل والمُسرَّحين العُمانيين من القِطاع الخاصِّ، كما يتَّجه إلى رفع مستوى جاهزيَّة المواطن ووعيه الاقتصادي والفكري والمعرفي وحسِّه الأمني وتمكينه من التسويق لمهاراته، وإعادة إنتاج الفرص وخلق روح التغيير لدَيْه، وتعزيز مستوى كفاءته في الاختيار والانتقاء، وتقدير الموارد والاستثمار فيها، وتأصيل مبدأ الأولويَّات، واستنطاق القِيَم، واستنهاض الهِمَم، ورفع سقف التوقُّعات نَحْوَ أولويَّات التطوير القادمة، بمعنى دَوْر الإعلام في إعادة إنتاج الفرد لواقع متجدِّد وظروف متغيِّرة ومواقف حياتيَّة متعدِّدة، تؤسِّس فيه روح التحدِّي، وحُب المبادرة، وأن يؤدِّي الإعلام الرَّسمي دَورًا أكثر احترافيَّة في رفع درجة الإبهار والتوقُّعات والإيجابيَّة، وخفض درجة القلق والاستهلاكيَّة والسلبيَّة، بحيث يمتلك الإعلام الرَّسمي من الأدوات والممكنات التي تتيح له صناعة الفارق في حياة المُجتمع، ومن جهة الأخرى الإعلاء من المكاسب الوطنيَّة المتحقِّقة من الأزمات والجوائح والإبقاء على حضورها، خصوصًا فيما يتعلَّق بمسألة الضبط الاجتماعي والرقابة الذاتيَّة، وحُب القانون، والمسؤوليَّة الشخصيَّة، والأمن والسلامة، وإدارة الأزمات، والتعامل مع الشائعات والأفكار الأحاديَّة، وانتقاء مصادر المعرفة وحُسن الاختيار لها، وتوجيه الأُطر وبناء استراتيجيَّات العمل الجمعي للمواجهة، وخلق روح التغيير النابع من فلسفة الشراكة والاعتماد على النَّفْس، وصقل الخبرات والاستفادة من الممكنات وجملة الحوافز، والانتصار للقِيَم المشتركة، الأمْرُ الذي يتطلب منه أن يعيد حساباته وهندسة برامجه وسياساته بما يتناغم مع جوهر السياسة العامَّة وأبعاد التأثير ومساحة الأمان التي تحتويها. هذه الموجِّهات باتت أولويَّة على الإعلام الرَّسمي أن يجنِّد طاقاته لتحقيقها، سواء كان ذلك من خلال محتوى الدَّورة البرامجيَّة التي يطرحها في منصَّاته (الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة والثقافيَّة والأمنيَّة)، ومستوى الاحترافيَّة والشفافيَّة في طرحها، وحضور ذوي الاختصاص والفاعلين والمؤثِّرين فيها، ثمَّ الوقوف على دَوْر القِطاعات فيها بالشَّكل الذي يوفِّر للمواطن صورة مكبَّرة واضحة متكاملة عن التفاصيل التي يبحث عنها، وثقافة مهنيَّة يستطيع أن يستند إليها في تقييم الواقع وتغيير المسار وترقية الاتِّجاهات بما يخرجها من التكراريَّة والروتين والظواهر الصوتيَّة إلى كونها محطَّات لقراءة معمَّقة للواقع، الأمْرُ الذي يطرح على الإعلام أهمِّية رفع مستوى التحليل الإخباري المتكامل في محطَّات عمله ومنصَّات أدائه، ويوفِّر مساحة أوسع لذوي الاختصاص في تشخيص الحالة وقراءة التحليلات والفرص والتحدِّيات الناتجة عنها مستقبلًا، بما يتطلبه ذلك من زيادة الجرعات الإعلاميَّة الموجَّهة لصناعة هذه الأُطر والتوسُّع في البرامج مع المحافظة على سقف التوقُّعات الناتجة عنها في ظلِّ معايير الكفاءة والجودة والشفافيَّة والمسؤوليَّة والموضوعيَّة، ومنح المواطن فرصًا أكبر لتقييمها وفق أدوات محكَّمة واستراتيجيَّات مُقنَّنة ووسائل متنوِّعة.
هذا الأمْرُ يقودنا أيضًا إلى مسار آخر يجِبُ أن يتَّجه إليه الإعلام الرَّسمي، بحيث يكسب معادلة التأثير والاحتواء معًا، في توظيف نواتج الإعلام الخاصِّ والإعلام الشَّخصي لصالح بناء منظومة إعلاميَّة وطنيَّة أكثر مرونةً واستيعابًا للواقع، بحيث يضع في الاعتبار أهمِّية توجيه القِيَم والخصائص والأولويَّات والأخلاقيَّات والمهارات والقدرات التي يعمل على تحقيقها لتنطبع على أنواع ومفردات الإعلام الأخرى بكُلِّ اختياريَّة ومهنيَّة واستشعار للمسؤوليَّة بحيث يجد الإعلام الخاصُّ والشَّخصي في الإعلام الرَّسمي ما يُعزِّز طرحه لبعض القضايا المُجتمعيَّة، ويقف معه في توسيع الجمهور الرَّسمي المتابع له، ويُعزِّز من مسار الثقة فيما يطرحه الإعلام الخاصُّ، والأمْرُ كذلك يسري على الإعلام الشَّخصي، بمعنى كيف يُمكِن للإعلام الرَّسمي أن يكوِّنَ منظومة علاقات تآلفيَّة متشابكة وجسورًا تواصليَّة ممتدَّة مع مختلف الأطياف الإعلاميَّة داخل الوطن بِدُونِ استثناء، في سبيل المحافظة على تحقيق رسالة الإعلام الهادف القادر على إحداث تحوُّل في فِقْه المواطن وتغيير قناعاته نَحْوَ المشاركة في صناعة الحدث الاقتصادي والتنموي، وامتلاك الأدوات والمهارات التي يستطيع خلالها أن يشارك بفاعليَّة في أجندتها، وفي الوقت نفسه أن يُمثِّل وبجدارة صوت المواطن المُعبِّر عن هواجسه وطموحاته وأفكاره والنَّاقل الأمين لها إلى جهات الاختصاص. وهنا تكمن قِيمة التحوُّل التي يصنعها الإعلام الرَّسمي وعَبْرَ جعل الجميع شركاء في المسؤوليَّة وتحقيق معايير النجاح، الأمْرُ الذي سيكون له أثَره الإيجابي في احتواء الكفاءات والاستفادة من محطَّات القوَّة التي يتميَّز بها الإعلام الخاصُّ والفردي، وتكوين قاعدة بيانات إعلاميَّة متكاملة بأصحاب الأُطروحات النوعيَّة والأقلام الهادفة والحناجر الشجيَّة، بما يحلُّونه من حسِّ المبادئ وثورة الأفكار المتزنة والموجِّهات والأُطر، واستقطابهم إلى محيط الوطن الكبير.
إنَّ خلق حالة من التناغم والتكامل الاحتواء والاستماع والقَبول والتنوُّع والتنويع في الخيارات، والاستفادة ممَّا يطرحه الإعلام الخاصُّ والفردي من أفكار نموذجيَّة أو يسلِّط عليه من هواجس مُجتمعيَّة، أو يبتكره من مبادرات إعلاميَّة وتواصليَّة ترفع الحسَّ الوطني وتصنع من الرسالة الإعلاميَّة قِيمة مضافة لها حضورها في أجندة المواطن، كما لها موقعها في رؤية الوطن الطموحة، سوف يضْمنُ قَبولًا اختياريًّا من الإعلام الخاصِّ والفردي في القَبول بمفهوم الاندماج من أجْل عُمان المستقبل، الأمْرُ الذي يجعل منه شريكًا استراتيجيًّا فاعلًا في المواجهة، يشعر الجميع بأنَّه يحمل رسالة وطنيَّة عُليا هدفُها المواطن وغايتُها توجيه البوح الإعلامي والمنصَّات الرَّقميَّة لصالح التكيُّف الواعي والسَّلس مع القوى الجديدة وإدماجها في مُجتمع الإعلام القادم، هذا الأمْرُ لا يعني عدم وجود نقاط تباين واختلاف، بل يُصبح التباين والاختلاف في وجهات النظر حالة إعلاميَّة صحيَّة تُسهم في توليد البدائل وخلق الفرص وتوسيع الخيارات ورفع سقف التوقُّعات، ويعطي مزيدًا من الثقة في الاعتراف بمصداقيَّة ما يطرحه الجميع وما يُعبِّر عنه الكُلُّ؛ كونه يصبُّ في مصلحة الوطن الأُم. وعليه، تبقى هذه المساحة من الأمان التي يمنحها الإعلام الرَّسمي ضرورة لخلق بيئة إعلاميَّة توافقيَّة يشارك فيها الجميع ويُعبِّر فيها الكُلُّ عن الصورة الواقعيَّة الهادفة التي يسعى إلَيْها في إطار من الشراكة والتوافقيَّة وحسِّ المسؤوليَّة، الأمْرُ الذي يُسهم في التقليل من حالة الصراع والتباين بَيْنَ أنواع الإعلام والصورة القاتمة التي ينْعتُ بها الآخر، في مستوى المصداقيَّة والموضوعيَّة، أو في اتِّساع القاعدة الجماهيريَّة، أو في احتكامه إلى توازنات فكريَّة وأخلاقيَّة ومنهجيَّة، وعندها تبرز الرسالة الإعلاميَّة كلغة اتصاليَّة حواريَّة جامعة تستهدف تعظيم المنجز الوطني ورفع سقف البدائل واستجابتها لاحتياجات المواطن.
أخيرًا، ومع الاعتراف بأنَّ واقع الفاعلين الإعلاميين الجُدد قد وضع الإعلام الرَّسمي في موقف محرج، فإنَّه وبالنظر إلى البون الشاسع فيما تشير إليه التفاعلات الجماهيريَّة مع الإعلام الرَّسمي، ولصالح حسابات المشاهير والإعلام الخاصِّ، يؤسِّس الحاجة إلى مرحلة جديدة من العمل المخلص يقف فيها الإعلام الرَّسمي على محطَّات التغيير، إذ وبعد نضوج البنية المؤسَّسيَّة الصلبة والبنية التشريعيَّة الناعمة تأتي الحاجة إلى إعادة التقاط الأنفاس، والوقوف على واقع الإنجاز نَحْوَ وضع ما تمَّ الإشارة إليه موضع الاهتمام، بالإضافة إلى تأكيد ما أشرنا إليه في مقالات سابقة من أهمِّية تأسيس بنية المختبر الإعلامي الذي يستهدف قياس الرأي العامِّ، وتعزيز البنية الإعلاميَّة الإلكترونيَّة وتقييمها وفق أدوات مقنَّنة ودراسات تشخيصيَّة فوريَّة يتمُّ خلالها تقييم المحتوى الإعلامي المقدَّم من كُلِّ القنوات الإعلاميَّة الرَّسميَّة بمختلف أشكالها الإذاعيَّة والتلفزيونيَّة، وطبيعتها الورقيَّة منها والرَّقميَّة والإلكترونيَّة، وتقديم مؤشِّرات واضحة حَوْلَ كفاية ما يتمُّ تقديمه من رسائل في مجال الاهتمام، وتعزيز التكامليَّة في أداء الفضاءات الإعلاميَّة الرَّسميَّة في التعامل مع تحدِّيات القِيمة المرتجعة من الرسالة الإعلاميَّة وتمكينها من بناء استراتيجيَّات عمل مشتركة مع إعلام المحافظات وإعلام المؤسّس قِطاعات التنمية الوطنيَّة، الأمْرُ الذي من شأنه أن يوفِّر قاعدة بيانات متكاملة بالخبرات المتخصِّصة وأفضل الممارسات الوطنيَّة، وتشجيع أصحاب النتاج العلمي الرَّصين من الكتَّاب والباحثين والمطوِّرين والمبادرين وذوي الاهتمام وأساتذة الجامعات، والمبتكرين، والمؤثِّرين في المنصَّات التواصليَّة، في تعزيز تفاعلهم مع مقتضيات المرحلة ومتطلبات البناء. إنَّ اكتمال نجاح منظومة الإعلام الرَّسمي بحاجة في ظلِّ اتِّساع قوى التأثير إلى صناعة المؤثِّرين الإعلاميَّة الوطنيين الذين يضعون اللمسات النهائيَّة لصورة الإعلام الرَّسمي الذي نريد، والذي يحافظ على ثوابت الهُوِيَّة والقِيَم العُمانيَّة، والتوسُّع في قاعدة التواصل والاعتراف الجماهيريَّة، وتعظيم الميزة التنافسيَّة للإعلام الخاصِّ والفردي في الاندماج مع المُكوِّن الرَّسمي، وعندها تتبدَّد هواجس الصراع، وتزول ضبابيَّة النظرة، وتنجلي مشوِّهات الصورة التي يسقطها أحدها على الآخر، لتتحوَّل القوى الإعلاميَّة الفاعلة إلى مساحة أمان مُجتمعيَّة، ونقطة تحوُّل لإعادة هيكلة بنية الإعلام الرَّسمي بما يتناغم مع أوليَّات المرحلة، ويتجاوز ثغرات الفردانيَّة والأنانيَّة والفوقيَّة إلى تشكيل الروح الجمعيَّة التي تحافظ على استقلاليَّة الإعلام واحترام رسالته.
د.رجب بن علي العويسي