تطرح معطيات الحياة اليوميَّة التي يعيشها المواطن حاجته إلى امتلاك المهارات الناعمة التي يستطيع من خلالها أن يتعامل معها في توازن واعتداليَّة، بلا إفراط ولا تفريط، ولا عشوائيَّة ولا غوغائيَّة، فلا اختلال في سلوكه، ولا انزواء في أفكاره، ولا تراجع في اهتمامه وأولويَّاتها، ولا تأخير في انطلاقته ومشاريعه وبرامجه، ولا تأثر سلبيًّا بالأحداث والمواقف بقدر ما يؤثِّر فيها ويُعِيد إنتاجها، في تجاوز مطبَّاتها، وعَبْرَ ضمان نقله من حالة الاتكاليَّة إلى الاعتماد على النَّفْس ومن الانتظار إلى المبادرة، ومن الاستهلاكيَّة إلى الإنتاجيَّة، ومن تلقِّي التعليمات وانتظار الأوامر إلى التأمُّل والتفكير والمبادرة في إنتاج الحلول، ومن كونها مهارات هامدة هاملة جامدة، إلى كونها متحركة وديناميكيَّة ومتجدِّدة، إذ تُمثِّل هذه المهارات معزّزات إيجابيَّة، ومحطَّات لبناء الحياة في ثوبها المتجدِّد، ومنطلقات تضْمن وضوح المسار، وكفاءة النهج، وأريحيَّة التوجُّه، ورُقي الممارسة، ومهنيَّة التعاطي مع متطلبات الواقع في ظلِّ حكمة مبدأ، ورُقي أسلوب، وسُموِّ تفكير، وتكامل ووعي متحقِّق، ونظرة مستقبليَّة، ومسار تفاؤلي، يعكس قدرته على صناعة الفارق، ووضع اليد على الجرح، فإنَّ وضوح هذه الموجِّهات وتكاملها وقدرتها على صناعة شخصيَّة المواطن، أولويَّة يجِبُ أن تدركَها مؤسَّسات التعليم والتدريب والتثقيف والتوعية وصناعة الوعي وإنتاج السلوك وبناء الذَّات، وضمان خلق هذا التحوُّل في قناعات المواطن وسلوكه، وبناء هذه الأُطر في ذاته وتمكينه من إتقان هذه المهارات بالشَّكل الذي يستطيع من خلالها أن يتركَ بصمة حضور له في واقعه، مسخرًا كُلَّ الوسائل والفرص والتقنيَّات من أجْل إشراق جديدة للحياة ومحطَّة تفاؤليَّة تنقل الإنسان من الركون للشحنات السلبيَّة والصراخ وعدم التحمُّل من تعقُّد الظروف وارتفاع المعيشة، التي باتت تؤرق الإنسان.
إنَّ المهارات الناعمة بذلك ممكنات ديناميكيَّة تتناغم مع معطيات الواقع والتحوُّلات الحاصلة في امتزاجها مع شخصيَّة المواطن، تحافظ على كينونة المواطن في ظلِّ عالم سريع التغيير، يتزايد فيه عدد المؤثِّرات والمطبَّات والسَّقطات كما يرتفع فيه مؤشِّر التوقُّعات والفرص وتنوُّع الخيارات والبدائل، الأمْرُ الذي يطرح على المواطن أهمِّية تحقيق التوازن في القدرة على العيش في ظروف متغيِّرة تحمل التحدِّيات وعسر المواقف، بما تفرضه الحالة الاقتصاديَّة اليوم من ظروف معيشيَّة صعبة وارتفاع في الأسعار وغلاء المعيشة، وبَيْنَ الاستفادة ممَّا وفَّرته التقنيَّة والمنصَّات الاجتماعيَّة ومواقع التواصل الاجتماعي من فرص في قَبول التحدِّي وعَبْرَ امتلاك القدرة على صناعة التغيير وتحقيق المهمَّة والتعامل مع الظروف عَبْرَ الاستثمار في التقنيَّة في تحقيق مشاريع منتجة دُونَ أن يتكلَّفَ فيها الفرد المواطن عناء القروض والإيجارات والخروج من البيت، فهو يستطيع أن يمارسَ هذا الإنجاز وينفِّذَ هذا المشروع وهو في بيته كما يستطيع أن يسوِّقَ لمشروعه ومنتجه بكُلِّ سهولة ويُسر، وما يعنيه ذلك من أنَّ الفرص المتاحة أكبر من اختزالها في وضع اقتصادي معيَّن، أو قراءتها في صفحة واحدة أو تفكير ضيق، بل محطَّة لانطلاقة أوسع في رحاب المعرفة والتعمُّق في التفاصيل الدقيقة التي يمكن أن يصنعَ منها المواطن محطَّات الحياة.
وبالتالي فهي بوَّابة المستقبل لصناعة قدرات وطنيَّة تمتلك حسَّ المستقبل والحدس بتوقُّعاته، وتستشرف أحداثه وتتفاعل مع مستجدَّاته، ولا يمكن تصوُّر مواطن فاعل وإيجابي ومنتج يتجاوز تفكيره ذاته، إلى رفع سقف التوقُّعات لتتَّجه إلى الآخر في ظلِّ إقصاء المهارات الناعمة، فالمسألة ليست مجرَّد تراكم مهارات بقدر ما هو تجديد وتفعيل لها من واقع تجارب الحياة ومواقفها واختباراتها، وقدرتها على إنتاج التحوُّل، الأمْرُ الذي يجعل من المهارات مساحة أمان تتَّسم بالاستمراريَّة والتفاعليَّة والتجديد، مراعية لحجم التطوُّر الحاصل في الوظيفة العامَّة أو الوظيفة المهنيَّة، وبالتالي الحاجة إلى نظام تعليم عالٍ فعَّال، وبرامج تدريبيَّة واضحة المسار، وأنظمة مهنيَّة تتفاعل مع المواطن الخرِّيج في موقع العمل والمسؤوليَّة، لذلك فإنَّ الحديث اليوم عن إنتاج المتعلم والمواطن اقتصاديًّا وتعظيم دَوْره في اقتصاد المعرفة، وتنشيط الفرص التي أتاحتها الحكومة في توجيه المواطن نَحْوَ العمل الحُر، والذي عَبَّر عنه عاطر الخِطاب والتَّوجيه السَّامي لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ أثناء ترؤُّسه اجتماع مجلس الوزراء الموقَّر في الثالث من يناير من عام 2023، وتوجيه جلالته للجهاز الإداري للدولة باتِّخاذ الإجراءات الكفيلة بتهيئة البيئة المناسبة التي تساعد المواطنين على الالتحاق بكافَّة الأعمال، وتوعية الشباب بفلسفة العمل وثقافته السائدة عالميًّا، وتشجيعه على خوض مجالات الأعمال الحرة؛ يحمل في ذاته دلالات عميقة وتحوُّلات يجِبُ أن يشهدَها قِطاع بيئة الأعمال والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة ومشاريع الشباب في سبيل تعظيم القِيمة المضافة للرأسمال البشري العُماني في إعادة إنتاج المسار الاقتصادي الوطني، واستشراف مستقبل أفضل لحضور الشباب العُماني في تشكيل صورة الاقتصاد وهُوِيَّته القادمة، وخلق صورة تناغميَّة تكامليَّة لضمان الاستفادة من جملة الموجِّهات التشريعيَّة والتحفيزيَّة التي اتَّخذتها الحكومة في سبيل تعزيز دَور ريادة الأعمال والعمل الحُر وثقافة الأعمال لرسم ملامح مستقبل الاقتصاد العُماني، بما يؤسِّسه ذلك كلُّه من أهمِّية تعظيم المهارات الناعمة واستحضارها وتأكيدها في حياة المواطن وقدرة المورد البَشري على استلهام هذا التحوُّل في بوصلة تفكيره الاقتصادي وممارساته الاستراتيجيَّة الماليَّة والخيارات الاقتصاديَّة والاستثماريَّة التي يطرحها.
على أنَّ القدرة على المنافسة في الهُوِيَّة وإثبات بصمة حضور تعكس نضج الوعي والشخصيَّة، يتطلَّب تمكين هذه المهارات وتعظيم حضورها في فلسفة الدَّاء الفردي والمُجتمعي واستيعابها وممارستها وفق أصول المعرفة الحقَّة والاحترافيَّة ومناهج التعليم ومسار تدريبي ممكن يتجاوز الموضة التدريبيَّة والشكليَّات، والممارسة الوقتيَّة التي تفتقر إلى التجربة والتقييم والمران والتصحيح وبناء النموذج. فالمهارات الناعمة من أهم المتطلبات في الحياة الاجتماعيَّة العامَّة، كما أنَّها مطلب رئيسي في سُوق العمل والوظيفة والمشروع الخاص، الأمْرُ الذي يؤكِّد على أهمِّية أن ترافقَ هذه الموجِّهات حياة المواطن في كُلِّ مواقف الحياة، وأن يبدأَ تدريب الطلبة على مهارات: الاتصال التواصل، والتخطيط والتنظيم، والتسويق والسمعة، والشراكة والإنتاجيَّة، والإلهام والتفكير الناقد، وإدارة الأزمات والتعامل مع الحشود والضغوطات، والاحترافيَّة في إدارة المشاريع، والتمكين والحوافز والصلاحيَّات، حلِّ المشكلات والقدرة على القيادة وصناعة النموذج والحوار البنَّاء، وتوظيف الفرص، وإنتاج الحلول، والتحليل وقراءة المؤشِّرات وغيرها من المهارات ذات القِيمة المضافة من التعليم ما قَبل المدرسة مرورًا بالتعليم المدرسي والجامعي متَّخذًا من أسلوب التدرُّج ومرونة التفكير ومعياريَّة النماذج وتبسيط عمليَّات تدريسها، عبْرَ مناهج مدروسة دراسة تربويَّة اقتصاديَّة واجتماعيَّة، نظريًّا وتطبيقيًّا؛ إذ إنَّ تمهين هذه المهارات وتجويدها ومراقبة تطوُّرها في حياة المواطن الطريق لإثباتها في ميدان المنافسة وعرصات التجريب، الأمْرُ الذي يلقي على مؤسَّسات التعليم اليوم مسؤوليَّة تقييم هذه المهارات ومستوى حضورها في حياة الخرِّيج وتبنِّي استراتيجيَّات وأدوات للتقييم واعتبارها شرطًا للعمل والتوظيف والترقِّي في سلَّم العمل الاجتماعي، كما لَمْ تَعُد المهارات الناعمة في عالم الاقتصاد ترفًا فكريًّا أو حالة استثنائيَّة، بقدر ما هي استحقاق أصيل يجِبُ أن تعملَ مؤسَّسات التعليم والتدريب والتمهين على تثبيت قواعده وتأطير مرتكزاته وإيجاد التشريعات والضوابط التي تحافظ على ضرورتها في فِقه المواطن الخرِّيج وسلوكه القادم في إدارة المواقف؛ فإنَّ عالميَّة المهارات الناعمة تضع نُظم التعليم الوطنيَّة أمام مسؤوليَّة نقل المهارات من النطاق المحلِّي إلى العالمي، إذ لَمْ يَعُدْ كافيًا أن تقصرَ إعداد مخرجاتها لدخول سُوق العمل المحلِّي، بل لا بُدَّ من أن تتسعَ نظرتها لتشمل إعداد الخرِّيج للمشاركة في سُوق العمل العالميَّة التي يحرِّكها اقتصاد المعرفة، فإنَّ الكثير من الفرص الوظيفيَّة اليوم تتمُّ عَبْرَ الفضاءات المفتوحة، وتخاطب الكفاءات بلغة المهارات الناعمة، الأمْرُ الذي يتيح للشَّباب العُماني المنافسة عليها، والانخراط فيها بما يُعزِّز من توسيع قاعدة قَبول المخرجات الوطنيَّة خارج سلطنة عُمان، وهو أمْرٌ يستدعي ارتباطًا ثلاثيًّا متينًا بَيْنَ التعليم والمهارات وسُوق العمل الوطني والعالمي، وإحداث تجديد نوعي في الفلسفة والآليَّات والتوجُّهات والتخصُّصات ونُظم التقويم، وتوطين الكفاءات الوطنيَّة المنتِجة والمتخصِّصة التي لها أثرها الإيجابي في صناعة الإلهام، وإعادة تحريك هاجس الشغف في المخرجات.
أخيرًا فإنَّ المواطن اليوم بحاجة في ظلِّ حالة التشاؤميَّة التي يعيشها العالم والتي باتت تؤجج لفجوة التباينات والمفارقات بَيْنَ الشعوب، إلى شحنات متجدِّدة من المهارات تقرأ الحياة بلغة راقية وروح مرحة، ومواقف مجرّبة، تعظِّم قِيَم الخيريَّة والفأل الحسَن والإيجابيَّة والتأثير والاحتواء، فهي القوَّة الناعمة التي يمكن من خلال فتح الخيارات الواسعة للمواطن في أن ينتجَ ويفكّرَ ويعطيَ ويتقدَّمَ ويتطوَّرَ، تلكم الإيجابيَّة التي يجِبُ أن تنتجَها القوانين والتشريعات وتصريحات المسؤول الحكومي ويتعاطى معها الإعلام الرَّسمي والخاصُّ، وأن يتجاوزَ من خلالها المواطن عقدة الإجراءات إلى تبسيطها، وعقليَّة الندرة إلى عقليَّة الوفرة، ويتحمل في ظلِّها التَّبعات؛ لأنَّه يدرك أنَّ وراء هذا الإنجاز مسؤولًا مخلصًا وأمينًا، يضع المواطن أولويَّة في مسؤوليَّاته الأخلاقيَّة وأمانته الوظيفيَّة، يحافظ على درجة استحقاق المواطن، ويمنحه فرصة أكبر للإنجاز، ويعطيه مساحة استحقاقات أكبر في أن يقرأَ الحياة في ثوب متجدِّد وسلوك نموذج، فيفتح له أرحب الآفاق بما يمنحه له من صِدق الثقة وحُسن التوجيه، يقدِّر الإنجاز ويحفِّز الموهبة ويبني الأمل ويصنع الروح الوطنيَّة العالية التي لا تفتر وتتحمل الصدمات، ويثق في الكفاءة الوطنيَّة في كُلِّ مواقع العمل والإنجاز، وفي قدرتها على صناعة التغيير، في ظلِّ استشعار لدَوْره وإحساس بوجوده وإدارة جديدة لمشاعره واحتواء لأفكاره. لذلك نعتقد بأنَّ هذه التفاصيل الدقيقة محطَّات مهمَّة يجِبُ أن تبنى في حياة المواطن، لتشكِّلَ قوَّة ناعمة في عالم سريع التغيير وأن تؤسَّسَ في ظلِّ مناهج تعليميَّة راقية، وإعلامي تنويري واضح وشفَّاف، ونظام اقتصادي قادر على أن يفتحَ المجال الأوسع للتفكير خارج الصندوق، داعمًا للمواطن، منطلقًا من وجوده بَيْنَ أُسْرته وفي بيته مساحة قوَّة له في صناعة الإبداع وإنجاز الفرص، يقلل من التعقيدات في الإجراءات، والمسارات غير المبرَّرة التي باتت تضع المواطن أمام خروج عن المألوف في ظلِّ إجرام التسريح غير المبرَّر للكفاءة العُمانيَّة، وهدر واستنزاف لطاقات الشباب الباحث عن عمل.
د.رجب بن علي العويسي