دأب الكيان الصهيوني منذ إنشائه على قلب الحقائق؛ ساعده في ذلك سيطرته على وسائل الإعلام العالمية، في وقت يكاد يغيب فيه دور الإعلام العربي عن الساحة؛ لكن ذلك لم يمنع من ظهور أصوات إسرائيلية تقول الحقيقة عن الخرافات والأساطير التي رددها الكيان الإسرائيلي منذ عام 1948 وحتى الآن، المتعلقة بأصول ما يسمى دولة إسرائيل وهويتها. يأتي في مقدمة هذه الأصوات المؤرخ والبروفيسور إيلان بابيه، الذي تصدى في كتابه «عشر خرافات عن إسرائيل» لتلك الخرافات التي يظهرها الخطاب الإسرائيلي ثوابت غير قابلة للطعن، حيث تبنتها الماكنة الإعلامية ودعمتها المؤسسة العسكرية ورددتها النخب السياسية والأكاديمية على نحو مضلل -حسب تصدير ناشر الكتاب- «لتشكل هذه الخرافات الأساس الذي تستند إليه ممارسات دولة الاحتلال، ممعنة في تكريس سياساتها الاستيطانية الاجتثاثية القائمة على طرد سكان البلاد الأصليين -أي الشعب الفلسطيني- ومواصلة ممارساتها العنصرية بحقهم، وبالتالي إطالة أمد الصراع».
صدرت الترجمة العربية للكتاب عام 2018، من المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ترجمة سارة عبد الحليم، في 231 صفحة. تضمن الجزء الأول «مغالطات الماضي» وفند فيه المؤلف ست خرافات، منها: هل كانت فلسطين أرضًا خالية؟، وهل كان اليهود شعبًا بلا أرض؟ وهل الصهيونية هي اليهودية؟ وما ارتباط الصهيونية بالاستعمار؟ ويفند ما تردد كثيرًا من أن الفلسطينيين غادروا وطنهم طوعًا عام 1948، ويتساءل: هل حرب يونيو 1967 كانت حربًا لا بد منها؟. أما في الجزء الثاني المسمى «مغالطات الحاضر»، فيتناول فيه خرافة أن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وخرافات أوسلو، وكذلك خرافات غزة. وفي الجزء الثالث تحت عنوان «نظرة إلى المستقبل» فيتساءل فيه هل حل الدولتين هو السبيل الوحيد للمضي قدمًا؟
يرفض بابيه رفضًا تامًا الخرافة القائلة إن الأرض الفلسطينية كانت خالية من السكان – كما تدعي الخرافات الصهيونية – عندما وصل إليها الصهاينة أواخر القرن التاسع عشر، وقد قاموا هم بزراعتها وتأهيلها؛ فحسب السجلات العثمانية الخاصة بالتعداد السكاني فإن غالبية سكانها كانوا من المسلمين، حيث شكل اليهود حينها نسبة 3% فقط من السكان، بينما شكل المسيحيون 10%، وكانت بلدًا ريفيًا عامرًا، وتمتعت بالازدهار قبل دخول الصهاينة إليها. ويقول بابيه إن فلسطين شكلت جزءا من عالم شرق البحر المتوسط الغني والخصب الذي شهد في القرن التاسع عشر عمليات تحديث إلى جانب بروز نزعة قومية فيه، فلم تكن فلسطين صحراء تنتظر أن تزدهر، بل كانت بلدًا ريفيًا على وشك دخول القرن العشرين كمجتمع حديث بكل ما ينطوي عليه هذا التحول من إيجابيات وسلبيات.
أما عن الخرافة الثانية التي تقول «إن اليهود كانوا شعبًا بلا أرض»، وتدعي أنهم وصلوا إلى فلسطين سنة 1882 وينحدرون من اليهود الذين تم طردهم من قبل الرومان عام 70 للميلاد، فيقول المؤلف إن يهود فلسطين الرومانيين لم يغادروا أرضهم وبقوا فيها وتحولوا إلى المسيحية أولًا ثم الإسلام، ويؤكد أن ما قبل عهد الصهيونية كانت الصلات بين المجتمعات اليهودية في العالم وفلسطين علاقة تعتمد على الدين وليست علاقة سياسية، وأن ترتيب عودة اليهود إلى فلسطين مشروع سياسي مسيحي بروتستانتي في الأصل، أكملته الحركة الصهيونية فيما بعد.
ويرفض بابيه الخرافة الثالثة القائلة إن الصهيونية هي اليهودية، مما يجعل معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية، ويرى أنها معادلة مغلوطة من خلال إجراء تقييم تاريخي للمواقف اليهودية إزاء الصهيونية وتحليل التلاعب الصهيوني بالديانة اليهودية لأسباب استراتيجية واستعمارية، وكذلك خداعها لليهود أنفسهم بالتضليل ونشر الأساطير التي اخترعوها، كما أنه يرفض رفضًا تامًا ادعاء الحركة الصهيونية بأنها حركة تحرر قومي للشعب اليهودي وأنها ليست حركة استعمارية، ويشبه الحركة الاستعمارية الصهيونية بالمشروع الاستعماري الذي حدث في جنوب أفريقيا وأستراليا وأمريكا ضد السكان الأصليين. ويقودنا هذا الفصل إلى خرافة أخرى تعد أكثر الخرافات استخدامًا وتبريرًا للاحتلال بأن الفلسطينيين غادروا وطنهم طوعًا بعد أن باعوا ممتلكاتهم ويقول: «إن قيادات الحركة الصهيونية والداعمين لها لم يتمكنوا من تخيل تطبيق مشروعهم الاستيطاني بنجاح، إلا بالتخلص القسري من السكان الأصليين إما بالاتفاق أو بالقوة، وما تزال القرى الفلسطينية المدمرة حتى يومنا هذا شاهدًا على التدمير والممارسات التي لجأت لها عصابات الاحتلال بحق الفلسطينيين». (وما يؤسف له أن كثيرًا من العرب يرددون – حتى الآن – الخرافة الإسرائيلية تلك، بأن الفلسطينيين هم من باعوا ممتلكاتهم).
ويرفض بابيه القول بأن حرب عام 1967 فُرضت على إسرائيل، وهي الخرافة التي روج لها الإعلام الصهيوني ولا يزال يصر عليها؛ «فالحرب كانت جزءًا من خطة الكيان الصهيوني واستكمالًا لرغبته في الاستيلاء على كل فلسطين، فكانت فرصة انتظرتها إسرائيل طويلًا وأقدمت على استغلالها حين أتيحت الفرصة، فقام الكيان الصهيوني بعد الحرب باحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة بحجة أن يكون العرب على استعداد للسلام معهم، لكن في حقيقة الأمر هذا الاستيلاء كان هدفًا صهيونيًا قديمًا تم الإعداد له قبل عام 48».
أما عن خرافة ديمقراطية إسرائيل، فيكذب الكاتب ذلك من خلال الواقع المعيش ويقدم صورة عن وضع الفلسطينيين في الداخل وفي الأراضي المحتلة، وهم الذين يشكلون نحو نصف تعداد السكان تحت حكم الاحتلال، ويبين كيف يعيش هؤلاء المواطنون، بإبراز انتهاكات الاحتلال العنصرية وتعدياته على حقوق الفلسطينيين وحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية والمدنية؛ فالقوانين التي يخضع لها الفلسطيني ليست هي القوانين التي تسري على اليهود «والتمييز العنصري لا يمكن لعاقل إنكاره، فاليهود يدمرون المنازل ويرسلون الفلسطينيين إلى المعتقلات وقتما شاؤوا، ويعيش الفلسطينيون تحت نير الاحتلال حياة الذل والمهانة، فضلًا عن سلسلة من المجازر الصهيونية في حق الشعب الفلسطيني كمجزرة كفر قاسم وغيرها».
يرى بابيه أن اتفاقيات أوسلو لم تكن سوى مجرد حيلة إسرائيلية لتدعيم الاحتلال وتعميقه، وكان هدف إسرائيل من أوسلو منع تشكيل أي مؤتمر دولي من أجل السلام. أما ما يتعلق بالانتفاضة الثانية، وكيف صور الصهاينة أنها عملية (إرهابية ضد إسرائيل)، يؤكد أن الجيش الإسرائيلي كان وقتها بحاجة إلى تقديم استعراض ناجح بعد هزائمه المتكررة على أيدي حزب الله في لبنان، لاسيما في صيف 2000، حيث ارتعدت فرائصه وخاف أن يظهر في مظهر الضعيف، فكانت الحاجة لاستعراض القوة وتأكيد الهيمنة في الداخل المحتل، وتحقق ذلك عبر عملية الدرع الواقي العسكرية عام 2002 وبناء الجدار الفاصل العنصري وقمع الانتفاضة.
ويعرض الكاتب في الفصل الثالث، ثلاث أساطير تروج لها إسرائيل بقوة، بغية تضليل الرأي العام، وهي خرافات تتعلق بشأن أسباب مأساة قطاع غزة، مثل «إرهاب حماس» و«فك الارتباط الإسرائيلي مع غزة كان عملًا للسلام» و«الحرب على غزة هي دفاع عن النفس».
وفي الخرافة العاشرة، يرفض إيلان بابيه مسألة أن حل الدولتين هو السبيل الوحيد للسلام، ويرى أن هذا الحل خرافي، وعبارة عن «دمية يتم التلاعب بها حسب المصالح الإسرائيلية والغربية»، ويشبهُه بجثة تقع في المشرحة، وبين الحين والآخر يتم إخراجها وتزيينها وتقديمها كأنها شخص حي، ثم عندما يكتشف الجميع زيف ذلك يعاد إدخالها إلى المشرحة لتعاد الكرة. يقول المؤلف «يجب أن تدفن هذه الجثة مع باقي قاموس الوهم والخداع، وإن إسرائيل قتلت حل الدولتين من خلال توسعة الاستيطان، وهم فقط يهدفون إلى قيادة دولة دون سيادة فعلية».
وإذا كان إيلان بابيه يرفض تمامًا أسطورة «ديمقراطية إسرائيل»، فإنه قد دفع ثمن آرائه الجريئة والصريحة هذه، فقد تعرض لكثير من النقد في الكيان بسبب تأييده لحقوق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال، وأدين من قبل الكنيست عام 2008، قبل أن يغادر الكيان، حيث دعا وزيرُ التعليم وقتها إلى إقالته من جامعة حيفا التي كان محاضرًا بارزًا فيها، وظهرت صورته في إحدى الصحف بوصفه أحد المستهدفين، وتلقى تهديدات بالقتل، وهو حاليًا أستاذ بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة إكستر ببريطانيا ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية بالجامعة نفسها، وله عدة مؤلفات أبرزها «التطهير العرقي لفلسطين» و«الشرق الأوسط الحديث» و«عشر خرافات عن إسرائيل» و«فكرة إسرائيل – تاريخ السلطة والمعرفة» وغيرها من الكتب. وفي اعتقادي أن بابيه نموذج إنساني مشرف، ليت بعض قومنا من العرب من المتصيهنين -أكثرَ من الصهاينة أنفسهم- يتعلمون منه.
زاهر بن حارث المحروقي
جريدة عمان: عدد الأثنين 19 يونيو 2023م