يطرح واقع العمل التطوُّعي في سلطنة عُمان نقاشات واسعة، لكونه يُمثِّل اليوم عنصر القوَّة الرئيسة في بناء القدرة الوطنيَّة، وما حملته رؤية «عُمان 2040» في مرتكزاتها وأولويَّاتها وأهدافها وبَيْنَ سطورها من موجّهات ومؤشِّرات، محطَّات لاستجلاء قِيَم التطوُّع وتأصيل ثقافته في حياة الفرد والأُسرة والموظف والعامل والرجل والمرأة والشَّباب والصغار؛ تعزيزًا لمَسيرة البناء، وتعميقًا للوحدة الوطنيَّة والشعور الجمعي والحسِّ المسؤول، وتنفيذًا لمقتضيات بناء نموذج وطني كفء في تعزيز المسؤوليَّة الاجتماعيَّة، سعيًا نَحْوَ الاستجابة لمرتكزات رؤية «عُمان 2040» «مُجتمع إنسانه مبدع معتز بهُوِيَّته، مبتكر ومنافس عالميًّا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام»، لذلك لَمْ تَعُد مسألة العمل التطوُّعي اليوم لتحقيق الأهداف الوطنيَّة استراحة وقتيَّة أو سلوكًا مزاجيًّا، بل هو سلوك جمعي ومنهجي فردي ومؤسَّسي يتناغم مع ثقافة المُجتمع العُماني وهُوِيَّته، والتحوُّلات الحاصلة فيه الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والتنمويَّة.
لقَدْ وجد مفهوم العمل التطوُّعي حضوره في التشريعات والقوانين الوطنيَّة تأكيدًا على القيمة المضافة التي يُحقِّقها، فمِن جهة يأتي تعبيرًا أصيلًا عن الهُوِيَّة والثقافة العُمانيَّة وأخلاقيَّات الإنسان العُماني الذي وجد في العمل التطوُّعي والتضامن والتعاون طريق القوَّة في بناء وطنه، وخيارًا أصيلًا في ضمان تحقيق المشاركة والمسؤوليَّة الاجتماعيَّة ورفع سقف العمل الاجتماعي النَّوعي. وشكَّلت الخصوصيَّة العُمانيَّة في العمل التطوُّعي امتدادًا أصيلًا للنموذج العُماني القائم على تعزيز التكامل والتكافل الاجتماعي والإخاء الإنساني في الداخل والخارج، وما رسمته مبادئ الدولة الاجتماعيَّة في النظام الأساسي للدولة من موجّهات عمليَّة انعكست على الأرض جسّدتها قِيَم حضاريَّة ونماذج عمل وطنيَّة شاهدة لنهضة الإنسان في سلطنة عُمان، للقناعة بأنَّ تفعيل أُطر الشراكة المؤسَّسيَّة المُجتمعيَّة يتطلب نماذج تطبيقيَّة اتَّخذت من العمل التطوُّعي والاجتماعي والخيري مداخل لتنفيذها ومنصَّات لبعثها، وأبرزت توجُّهات سلطنة عُمان على المستوى الوطني والدولي مسارات واضحة في تعظيم القيمة المضافة للعمل التطوُّعي في حياة الطلبة والشَّباب، وتمكينه من إتقان مهارات العمل الاجتماعي وتعزيز مفهوم أعمق لديهم حَوْلَ المسؤوليَّة الاجتماعيَّة؛ باعتبارها منطلقات لنُموِّ ثقافة التطوُّع في حياة الشَّباب ومبادراته، وبِدَوْرِه عزَّز قانون الجمعيَّات الأهليَّة من دَوْر مؤسَّسات المُجتمع المدني نَحْوَ رفع سقف مشاركتها في بناء نموذج التطوُّع، وتعزيزًا لدَوْر سلطنة عُمان في السلام العالَمي والإخاء الإنساني والمشاركة الإنسانيَّة في تحقيق عالَم يسوده الاستقرار. فقَدْ عزَّزت سلطنة عُمان من التوسُّع في مفهوم العمل الخيري؛ باعتباره قيمة حضاريَّة إنسانيَّة خارج حدود سلطنة عُمان ودَوْر الهيئة العُمانيَّة للأعمال الخيريَّة، كما أسهمت الجمعيَّات التطوُّعيَّة في المجالات البيئيَّة والاجتماعيَّة والسياحيَّة والتقنيَّة والفِرق الخيريَّة المنتشرة في مختلف قرى وولايات سلطنة عُمان من عمق هذا الدور، كما أثمرت جائزة السُّلطان قابوس للعمل التطوُّعي كإحدى أهم الجوائز الوطنيَّة الداعمة للمنافسات الفرديَّة والمؤسَّسيَّة في الأعمال الخيريَّة والمسؤوليَّة الاجتماعيَّة عن مؤشِّرات تحوُّل نوعي في ثقافة المُجتمع والشَّباب، ورسَّخت مبادئ الشراكة والتَّمكين كمنطلقات رئيسية للعمل التطوُّعي المسؤول.
ومن جهة أخرى اتَّسم مفهوم العمل التطوُّعي في سلطنة عُمان بالعُمق والاتِّساع والتنوُّع والتناغم مع معطيات الواقع الاجتماعي والتطوُّر الحاصل في المُجتمع، فهو ينمو بشكلٍ موازٍ لنُموِّ المُجتمع وتطوُّره، ويتقاسم الأفراد والمؤسَّسات خلاله مسؤوليَّاتها في تأصيل ثقافة العمل التطوُّعي، فإن الحديث عن العمل التطوُّعي في رؤية عُمان 2040 حمل في مفهومه مسارات أكثر عمقًا وتنوُّعًا ومهنيَّة واحترافيَّة، إذ لَمْ يَعُدْ العمل التطوُّعي اليوم خدمة محدودة المصدر يقوم بها الفرد، بل حملت معها مساحة أكبر للابتكار والاختراع وبناء نماذج عمليَّة تساعد على تحقيق الإنجاز والمهام بكُلِّ سهولة ويُسر وبأقلِّ تكاليف، كما أنّ مسار العمل التطوُّعي اليوم لا يقتصر على العمل الفردي، بل أصبح ملازمًا لمفهوم المسؤوليَّة الاجتماعيَّة للأفراد ودَوْر مؤسَّسات المُجتمع المَدَني والمسؤوليَّة الاجتماعيَّة للشركات في تعظيم مفهوم العمل الاجتماعي التطوُّعي والعمل الخيري، إذ تشترك هذه المؤسَّسات وغيرها جميعها في مفردة الانصهار في المُجتمع والاحتواء لمُكوِّناته، والمحافظة على سقف الثقة وفرص التكامل حاضرة، وتقديم عمل نوعي وجهد مبتكر باختيار وإرادة ورغبة وبدُونِ أيِّ مقابل أو عائد مالي، ويصبح العمل التطوُّعي تعبيرًا صادقًا عن إذابة نزغات الأنانيَّة والأثرة والفوقيَّة والاستعلاء لتصنع على أرض الميدان وبيئة العمل صورة أخرى قائمة على وحدة الهدف والمصير وغلبة الخيريَّة والبِر والإحسان والرحمة على كُلِّ نوازع النَّفس الداخليَّة، لتصنعَ من العمل التطوُّعي القوَّة الناعمة في إنجاز هذه الأولويَّات، والطريق الأمثل لبناء مُجتمع القوَّة.
إنَّ الاستمراريَّة في تحقق فاعليَّة أكبر لهذه الجهود المؤسسيَّة والأهليَّة يستدعي وجود بيئة عمل جاذبة تعزِّز من ممارسة التطوُّع، يفهم المُجتمع مسؤوليَّته نَحْوَها، وبيئة تشريعيَّة مرنة وداعمة، تبرز تحوُّلًا في نوعيَّة الخدمات المقدَّمة وطريقة تقديمها في ظلِّ استخدام التقنيَّة والإدارة الرقميَّة الذكيَّة، وابتكار فرص استثماريَّة وتمويليَّة مستدامة، وفي الوقت ذاته تشخيص مستمر لنوعيَّة الحالات وطبيعة المتطلبات التي تحتاجها منظومة العمل الاجتماعي التطوُّعي والخيري في فترات زمنيَّة محدَّدة، وبالتَّالي بناء القدرة الوطنيَّة في العمل التطوُّعي والذي يبدأ بدَوْر التعليم ومؤسَّسات المُجتمع المَدني والإعلام والمؤسَّسات المعنية بالتعامل مع الحالات الطارئة والأنواء المناخيَّة في استنطاق قِيَم المُجتمع العُماني الداعمة للتطوُّع والعمل الخيري واستنهاض الروح المعنويَّة المعبِّرة عن جاهزيَّة المواطن والثقة في قدراته، وتوسيع فرص المنافسة في تأطير هذا السلوك وترجمته من خلال برامج العمل والمبادرات التطوُّعيَّة وتشجيع العاملين بالمؤسَّسات بالانتقال إلى ميادين العطاء والإنتاجيَّة والبذل والتضحية والمشاركة، وبالتالي ما يتطلبه ذلك من وضوح في مفاهيم العمل التطوُّعي ومصطلحاته المتداولة في أروقة المؤسَّسات، ودَوْر المؤسَّسات فيه والمساحة الممنوحة له في أجندتها، فإنَّ أبرز التحدِّيات المرتبطة بثقافة العمل التطوُّعي ناتجة عن غياب التأطير المفاهيمي للعمل التطوُّعي وقياس نتائجه وآليَّات التعاطي معه في ظلِّ التعقيدات في الإجراءات وعدم ثباتها وتعدُّد الاجتهاد فيه ومستوى التعاطي معه من قِبل المخطِّطين وراسمي السياسات، ـ إذا ما علمنا أنَّ بعض المؤسَّسات ترى في العمل التطوُّعي تدخلًا في اختصاصاتها ومهام عملها، وشعورًا بغياب مسألة التقدير الاجتماعي لها نظرًا لأنَّ العمل التطوُّعي الذي بادر المُجتمع أو المؤسَّسات به اختصاص رسمي ومسؤوليَّة واجبة على المؤسَّسة، ممَّا يضع المؤسذَسة أمام نقد وقصور في عدم الوفاء بمسؤوليَّاتها.
وبالتالي أهمِّية حوكة العمل التطوُّعي وعَبْرَ تبنِّي سياسات واضحة وضوابط مقننة في حدود المشاركة الفرديَّة في العمل التطوُّعي والالتزامات المترتبة على المؤسَّسات في سبيل استدامته وفاعليَّة تحقُّق أهدافه، فلَمْ يَعُدِ العمل التطوُّعي اليوم في صورته المعتادة، بل اتَّسع وتشعَّب في طبيعته وهيكلته وأهدافه ومحتوى عمله، وتطلب وجود أنظمة وأدوات وآليَّات عمل وخبرات، واعتماد نماذج وأُطر وتشريعات تضبط مساره وتوجِّه أهدافه، وتقيس نتائجه وفق معايير الجودة والفاعليَّة في المنتج المتحقق منه، وتبني منهجيَّات رصد الممارسة التطوُّعيَّة وطوات عملها ومراحلها الإنتاجيَّة المختلفة، وما تستدعيه في كُلِّ مرحلة من خطط وبرامج ومنظومة أداء مقنَّنة بهدف الوصول إلى مؤشِّرات نوعية تضمن للممارسة التطوُّعية النضوج الفكري وللأهداف جودة التحقق؛ فإنَّ استدامة العمل التطوُّعي مرهونة ـ في ظلِّ مسار الحوكمة ـ بتكامل الخيارات وتناغم الأُطر وتقاسم المسؤوليَّات، والاتِّجاه نَحْوَ رفع سقف المشاركة المُجتمعيَّة وترقية دَوْر التطوُّع كمحطَّة بناء متجدِّدة تستفيد من الشغف والحماس الوطني الذي ينمو مع الشَّباب والصغار والكبار وحسِّ المسؤوليَّة والولاء والانتماء لهذا الوطن في صناعة التغيير وإنتاج الفرص، وعندها يصبح العمل التطوُّعي ثقافة مُجتمعيَّة وشعور اجتماعي ورابطة وطنيَّة في مواجهة التحدِّيات والوقوف على الظروف والحدِّ من تأثيرها السلبي على حياة المواطن وأمنه وسلامته، وبالتالي يُمكِن قراءة الأنواء المناخيَّة والحالات الطارئة وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، وتعقّد الظروف الاقتصاديَّة محطَّات اختبارًا لقياس العمل التطوُّعي المعبِّر عن هُوِيَّة المواطن العُماني ويعكس نموذج التعايش التكامل والتسامح والسَّلام الداخلي الذي يعيشه مع الآخرين في الوقوف معهم في الأزمات ومساعدتهم في تخطِّي العقبات والمطبَّات، وتجاوز المنغِّصات، لينتقل هذا الشعور من الفرد إلى المُجتمع ثم مؤسَّسات الجهاز الإداري للدولة فتعمل على تنشيط حركة العمل التطوُّعي والبحث عن أولويَّة تعزيز هذه الثقافة، وتوفير كُلِّ المعطيات التي تدعم نموها وانتشارها وتطورها في المُجتمع، في كونها خيارًا يمارسه المواطن برغبة وقناعة بقيمته على المسار الشخصي والاجتماعي وفق معايير الاستدامة، وعندها يصبح العمل التطوُّعي مجالا رحبا واسعا للمنافسة وإثبات الذَّات في تعدُّد مداخله وتنوُّع أهدافه وتشعُّب مجالاته وتعدُّد منطلقاته.
أخيرا، يبقى الرهان في ظلِّ محدِّدات الحوكمة ونافذيَّة التشريعات والقوانين والإجراءات المحققة لاشتراطات كفاءة العمل التطوُّعي، في توظيف هذا التأصيل الفكري والثراء الخبراتي والبنية التشريعيَّة والمؤسَّساتيَّة لمنظومة العمل التطوُّعي في سلطنة عُمان كـقوَّة دفع ومساحة تأثير في عمل الأفراد ومختلف القِطاعات ومنظومات المُجتمع المَدني لتشكِّلَ جميعها مرتكزات ضامنة لاستدامة العمل التطوُّعي، في ظلِّ تكامل الأُطر وثبات الإجراءات ورفع درجة الوعي وتعزيز فرص التحفيز، وتوجيه العمل التطوُّعي إلى ميادين المنافسة وعرصات الإنجاز، من خلال دعم النماذج الايجابيَّة في العمل التطوُّعي القائمة على وضوح المعايير ومنهجيات العمل، بحيث يدرك المواطن هذا التحوُّل في طبيعة العمل التطوُّعي والأدوات المتجدِّدة التي يستخدمها والفرص التي أتاحتها الدولة، في سبيل وجود ممارسة تطوُّعيَّة عالية الجودة، تضْمن نُموِّها في المُجتمع وقَبولها من قِبل الشَّباب ومؤسَّسات الدعم بكُلِّ اقتناع وأريحيَّة. إنَّ وضوح رسالة العمل التطوُّعي وغاياته وموقعه في السلم الوظيفي والاجتماعي سوف يضْمن لجهود التطوُّع الاستدامة ولنتائجه التأثير والفاعليَّة.
د.رجب بن علي العويسي