يطرح قرار بلديَّة مسقط بشأن فرض غرامة إداريَّة وقدرها (100) ريال عُماني على كُلِّ مَن يَقُومُ بالتَّشجير خارج حدود قطعة أرضه السكنيَّة دُونَ الحصول على تصريح مسبق، الكثير من علامات الاستفهام والنِّقاشات عَبْرَ منصَّات التَّواصُل الاجتماعي في وقتٍ تسعى فيه الحكومة إلى الحدِّ من الإجراءات والالتزامات غير الضروريَّة المرتبطة بالرُّسوم الحكوميَّة الَّتي باتتْ تُشكِّل تحدِّيًا مقلقًا للمواطن في ظلِّ غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار ورفع الدَّعم عن الخدمات الأساسيَّة وارتفاع التَّضخُّم وانعكاسات ذلك على الاستقرار المعيشي والرَّفاه الاجتماعي للمواطن، لِتضيفَ هذه الرُّسوم فصلًا جديدًا والتزامات ماليَّة تُسهم في فجوة الثِّقة في الجهد المؤسَّسي والصُّورة الذِّهنيَّة السَّلبيَّة الَّتي باتَ يسقطها المواطن على الجهد الحكومي في ظلِّ غياب إدارة المشاعر والمحفِّزات وتغييب مبدأ الأولويَّات والضَّرورات، والهدف غير المُعلَن للبلديَّة فيما يُمكِن أن تُسهمَ به هذه الرُّسوم من زيادة المداخل الماليَّة للبلديَّة على هيئة رسوم تفرض على كُلِّ مواطن أو صاحب منزل يريد أن يغرسَ شجرة أمام بيته، فهو قرار غير ذي جدوى، سواء في بُعده الزَّماني أو المجالي أو المكاني.
لذلك وللأسباب الَّتي تعرفونها، اطمئنوا بأنَّ المواطن في مسقط لن يزرعَ شجرة، وما عاد لدَيْه الرَّغبة في زراعة الشَّجر، لأسبابٍ كثيرة مِنْها:
1- إنَّ ثقافة المُجتمع اليوم وبشكلٍ خاصٍّ الشَّباب مِنْهم باتتْ تتَّجه نَحْوَ إيجاد بيوت خالية من أيِّ مظاهر التَّشجير؛ لِمَا تولَّد لدَيْه بسبب هذه القرارات من فوبيا التَّشجير، ولِمَا تتطلبه عمليَّة التَّشجير من مصاريف كبيرة ومتابعة مستمرة، ورعايتها بالسَّقي والتَّقليم وصونها بالأدوية في علاج الأمراض الَّتي باتتْ ترافقها أو تؤدي إلى ضعف نموِّها، الأمْر الَّذي باتَ يستهلك موارد المواطن وأمواله الَّتي هو بحاجة إلَيْها لسداد القروض البنكيَّة.
2- يُمثِّل الاستهلاك الشَّهري للماء وارتفاع فاتورة الكهرباء والمياه وتوقُّعات برفع الدَّعم الكُلِّي عن هاتيْنِ الخدمتَيْنِ تحدِّيًا كبيرًا ومرتكزًا لدَى المواطن في تفكيره المستقبلي، الأمْر الَّذي يضع المواطن وأُسرته أمان التَّخلِّي كُليًّا أو التَّنازل المتدرِّج عن الزِّراعة المنزليَّة.
3- لم تَعُدْ مسألة التَّشجير اليوم مقتصرة على غرس الأشجار في التُّربة وتضييق المساحات أمام المنازل الَّتي لا تستوعب أعداد السيَّارات الَّتي تقتنيها الأُسرة، لِتجدَ في المكان المتاح لها استغلاله في توفير المواقف بدلًا من التَّشجير، وفي المقابل فإنَّ عمليَّة التَّشجير اليوم يُمكِن أن تكُونَ في أحواض أو أوعية للنَّباتات والأشجار المنزليَّة، فهي لا تحتاج إلى حيِّز مكاني كما يُمكِن نقلُها من مكان لآخر حسب طبيعة الجو؛ كون الاعتماد على الأشجار عن طريق الغرس في الأرض مباشرة غير قادر على مقاوَمة درجة حرارة الصَّيف، وعِندَها يصبح إيجادها في أوعية سهلة التنقُّل البديل الأساس للزِّراعة، ولأنَّها غير ثابتة فلا تحتاج إلى تصريح إذ يُمكِن للمواطن نقلُها متى ما شاء.
4- عمليَّة التَّخطيط العمراني العشوائي الَّتي يعيشها الكثير من الأحياء السكنيَّة في مسقط وغياب وجود أرصفة أو مساحة لوقوفِ المَركبات، إذ يكاد يتَّسع الطَّريق أمام المساكن في بعض الأحياء لمرور مركبتَيْنِ، حيثُ شكَّل قلَّة المساحة إزعاجًا كبيرًا للسكَّان ما يقلِّل من أهميَّة تضييقها بالزِّراعة.
5- ثمَّ ماذا يزرع المواطن إن كانتِ النَّخلة، فالابتعاد ـ كما أشرتُ ـ عَنْها أصبح أمرًا فطريًّا وبشكلٍ خاصٍّ في مسقط نظرًا لصعوبة التَّعامل معها وإيجاد العمالة المُتخصِّصة أو الَّتي يعتمد عَلَيْها في عمليَّة التَّنبيت والتَّخليج و«الخراف» الحصول على الرُّطب والتَّمر، على عكس ما هو متوافر مِنْها خارج مسقط، لذلك فمن المتوقَّع بأنَّ زراعة النَّخلة باتتْ غير حاضرة في القاموس السَّكني، كما هو غير حاضر في قاموس البلديَّة.. فعلى سبيل المثال، الممْشَى الأخضر بالمعبيلة لا توجد به نخلة واحدة، أمَّا مسألة بقيَّة الأشجار فلم تَعُدْ ذات اهتمام من المواطن؛ كونها ليسَتْ أشجارًا مثمرة أو فواكه يَعتمد عَلَيْها المواطن، فما هي سوى شجرة ضررُها أكثر من نفعها، سواء مِنْها أشجار الشريش أو غيرها من الأشجار الَّتي لا تصنع قِيمة مضافة، بل بالعكس يؤدي تساقُط الأوراق وتأثيرها على الجدار الخارجي والإنترلوك أو السيراميك أو البلاط أو تأثيرها على أنابيب الصَّرف الصحِّي إلى تشويه المنظر العامِّ لواجهة المنزل، لذلك اتَّجه أغْلْبُ المواطنين لقطعها وقلعها.
6- التَّشجير والزِّراعة ـ كما أشرتُ ـ تحتاج إلى جهدٍ ومتابعة وسقيٍ ورعاية وعناية مستمرة، وأغْلَبُ سكَّان مسقط هُم من خارج مسقط، أو وافدون حيثُ تصل نِسبتهم إلى (61%) مقابل (39%) مواطن، ثمَّ إنَّ البعض مِنْهم مَن اتَّجه إلى إيجاد استراحات وتخييم خارج مسقط لِيستغلَّ هذه النُّزل الخضراء أو الاستراحات أو ما تُسمَّى بالعِزب ـ وإن كانتْ لدَيْه رغبة التَّشجير فيتَّجه به إلى النُّزل الخضراء أو المتنزَّه أو العِزبة. ومن جهة أخرى فإنَّ حرارة مسقط واستمرار الصَّيف فيها لفترةٍ طويلة تزيد على (6) أشْهُر جعلَ من مسألة التَّشجير حالةً غير مرغوبة لدَى السكَّان، فالقناعة بعدم الزِّراعة باتتْ أفضل الخيارات.
7- هذا القرار جاء بِدُونِ دراسة أو استشارة أو لقاءات مشتركة مع جهات الاختصاص المعنيَّة بالشَّجرة، بل وتتقاطع معها سلبًا، مِثل: وزارة الثَّروة الزِّراعيَّة والسَّمكيَّة وموارد المياه حيثُ يتقاطع سلبًا مع اهتمامها بالشَّجرة وحرصها على تنفيذ المبادرات السَّاعية لذلك، وقَبل ذلك رفع درجة الشُّعور الجمعي الوطني والاهتمام الشَّخصي بالشَّجرة؛ كونها أحَد مرتكزات الأمن الغذائي في سلطنة عُمان، والدَّعوة إلى تعزيز الصِّناعات التَّحويليَّة المرتبطة بالشَّجرة والنَّخلة والتُّمور، ويتقاطع مع حرص وزارة التَّربية والتَّعليم وسعيها نَحْوَ الاحتفال بيوم الشَّجرة وتشجيع الطَّلبة على غرس الشَّجر واستضافة المهتمِّين بالشَّجرة من أصحاب المشاتل الزِّراعيَّة لتقديمِ النَّصائح والتَّوجيهات للطَّلبة، كما يتقاطع مع توجُّهات الاستراتيجيَّة العمرانيَّة السَّاعية إلى تعزيز البساط الأخضر وخَلْق روح التَّغيير الدَّاخلي، وإيجاد النَّماذج العمليَّة للمطوِّرين العقاريِّين ومكاتب الاستشارات الهندسيَّة في الانتقال إلى مرحلة متقدِّمة في توظيف عمليَّات التَّشجير وتحسينها ضِمْن خريطة البناء، بما يتناغم مع الذَّوق العامِّ ويحقِّق جودة الحياة ويرفع من فرص تخفيف درجات حرارة الجوِّ، ويتقاطع معها في ظلِّ التَّوجُّه نَحْوَ إيجاد مسقط الكبرى الَّتي تنتقل من المناطق الجبليَّة والضيِّقة كما هي طبيعة مسقط إلى بركاء؛ باعتبارها من المناطق الواسعة والَّتي هي بالأساس أراضٍ زراعيَّة، فيُصبح التَّعامل معها في إطار هذا التَّوجُّه محفوف بالتَّباينات والشَّكاوى وغيرها.
8- إذا كانتْ بلديَّة مسقط تريد من هذا القرار «تنظيم استخدام المساحات العامَّة والحفاظ على النِّظام العمراني والبيئي في المدينة فإنَّ هناك أولويَّات أخرى ترتبط بهذا الأمْر ومن بَيْنِها: تعزيز البُعد الجَمالي والذَّائقة الحضاريَّة في الأحياء السكنيَّة، فإنَّ الكثير من الأحياء السكنيَّة تعاني من انعدام خدمات الطُّرق فيها أو الإضاءة أو وجود المسطَّحات الخضراء أو وجود بيئات ترويحيَّة أو وجود مختصرات تربطها بالأحياء السكنيَّة القريبة، أو تنظيف مجاري الأودية والشِّعاب الَّتي تعاني من تراكم أشجار السُّمر والسِّدر فيها وتأثيرها في انسيابيَّة المياه، أو معالجة التَّقاطعات الَّتي تسبَّبتْ في حوادث مروريَّة داخل الأحياء السكنيَّة أو تجميل وتشجير الدّوَّارات أو غيرها، فهذا الأمْر هو ما سيُسهم في رفع مستوى الذَّائقة الجَماليَّة لمحافظة مسقط، ناهيك عن إشكاليَّات التَّخطيط الحاصلة في ظلِّ تداخل المباني التجاريَّة الكبيرة في الأحياء السكنيَّة وتغييب الخصوصيَّة من البيوت، مع عدم وجود أماكن لوقوف المَركبات في العمارات الَّتي تحتوي على مئات الشّقق وغيرها ممَّا أصبح أحَد المشوِّهات الَّتي تفوق في ضررها ما أشارت إلَيْه البلديَّة في قرارها.
9- هل تدرك بلديَّة مسقط أنَّها بهذا القرار قد أغلقتْ نوافذ الأمل لدَى الشَّباب العُماني وبالأخصِّ المؤسَّسات الصَّغيرة والمُتَوَسِّطة وأصحاب المشاتل الزِّراعيَّة والمُهتمِّين بالزِّراعة، إذا ما عَلِمنا أنَّ محافظة مسقط تحتوي على أكثر المشاتل الزِّراعيَّة في سلطنة عُمان، ويستغلُّ المواطن الأشْهُر الأربعة من نوفمبر إلى فبراير في غرس شجرة أو وردة أمام بيته رغم عِلمه بأنَّ الصَّيف سيقضي عَلَيْها، لِيظلَّ داعمًا لأصحاب المشاتل، لذلك فإنَّ المتوقع إلحاق الضَّرر بأصحاب المشتل وقَدْ يصلُ الأمْر إلى الإغلاق والإفلاس.
10- أخيرًا، يبقَى ما أشرنا إلَيْه جزءًا من السّيناريو القادم ومحطَّات ومواقف تؤكِّد على حقيقة يَجِبُ أخذُها في الاعتبار؛ أنَّ قرار بلديَّة مسقط اليوم يأتي امتدادًا لقرارها قَبل أكثر من عشر سنوات بشأن رسوم ترخيص المظلَّات والَّذي تمَّ إلغاؤه مؤخرًا وأثبتَتِ الأيَّام عدم فاعليَّته، والَّذي استهلَك جيب المواطن ولم يحقِّقِ الغايات والمستهدفات الَّتي سعتِ البلديَّة لِتحقيقِها؛ لِيأتيَ هذا القرار تجسيدًا لمسار العشوائيَّة وغياب البُعد الاستراتيجي في التَّخطيط والاستثمار، وتكريسًا للُغة النُّدرة وسُلوك المَنْع الَّذي يفتقر لتنوُّع الخيارات وجاهزيَّة البدائل، قرار لم ينجحْ ـ في تقديرنا الشَّخصي ـ في استيعاب لُغة التَّقنين والضَّبطيَّة والتَّنظيم والحوكمة الَّتي أرادت بلديَّة مسقط تحقيقَها من هذا القرار؛ بل اتَّجه القرار لتكريسِ لُغة الفردانيَّة وفرض سياسات المَنْع ووضع المواطن في صورة الأمْر الواقع. «ح. تدفع يعني ح. تدفع».
د.رجب بن علي العويسي