الثلاثاء, يونيو 24, 2025
  • Login
عاشق عُمان
  • أخبار
    • الطقس
    • Oman News
  • مقالات
  • وظائف وتدريب
  • ثقافة وأدب
    • شعر
    • خواطر
    • قصص وروايات
    • مجلس الخليلي للشعر
  • تلفزيون
    • بث أرضي للقناة الرياضية
  • لا للشائعات
  • المنتديات
No Result
View All Result
عاشق عُمان
No Result
View All Result




Home مقالات

من حلب إلى العالم.. مصطفى الزرقا وإعادة تعريف الفقه القانوني الإسلامي

12 مايو، 2025
in مقالات
من حلب إلى العالم.. مصطفى الزرقا وإعادة تعريف الفقه القانوني الإسلامي

عبد العزيز بدر عبد الله القطان*

في خضم التحولات الكبرى التي شهدها العالم الإسلامي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، برزت شخصيات قانونية وفقهية استثنائية سعت إلى مواكبة متطلبات العصر مع الحفاظ على الهوية الإسلامية الأصيلة، ومن بين هذه الشخصيات البارزة يأتي القاضي والمفكر الإسلامي مصطفى أحمد الزرقا (1904–1999)، الذي يُعد أحد أعمدة الفقه الحنفي والقانون المدني الإسلامي الحديث.

وُلِد الزرقا في مدينة حلب السورية، التي كانت تشكل آنذاك مركزاً علمياً وحضارياً مزدهراً، في ظل الدولة العثمانية المتأخرة ثم الانتداب الفرنسي، مما أتاح له الاحتكاك بتيارات فكرية وقانونية متنوعة، كما تميزت مسيرته بالجمع بين التكوين التقليدي في الفقه الإسلامي، حيث نشأ في أسرة علمية عريقة (فوالده هو الفقيه أحمد الزرقا)، والاطلاع الواسع على المنظومات القانونية الغربية، ما جعله رائداً في مجال “التقنين الإسلامي” و”تحديث الفقه” دون قطيعة مع الأصول.

كما أن تخصص الزرقا في مجال القانون المدني الإسلامي، وترك إرثاً غنياً شمل تأليف عشرات الكتب، أبرزها “المدخل الفقهي العام” الذي أصبح مرجعاً أساسياً في كليات الشريعة والقانون، و”شرح القانون المدني السوري” الذي اعتمد على المذهب الحنفي مع إدماج اجتهادات معاصرة، كما شارك في صياغة مشاريع قوانين مستمدة من الشريعة في سوريا والعراق، مما يجسد محاولة عملية لإعادة تفعيل الفقه الإسلامي في الأنظمة الحديثة.

وتكمن أهمية دراسة شخصية الزرقا في كونه نموذجاً للفقيه القانوني الذي وازن بين الأصالة والحداثة، حيث لم يقتصر على التنظير الأكاديمي، بل انخرط في العمل التشريعي الميداني، مع التركيز على حل إشكاليات الواقع مثل المعاملات المالية والأحوال الشخصية، كما أن موقفه من قضايا مثل “الربا” و”الوقف” يقدم إجابات عملية لتحديات الاقتصاد المعاصر.

وفي هذا البحث، سنحاول الكشف عن أبعاد شخصية الزرقا القانونية من خلال تحليل سياقه التاريخي، وإسهاماته الفقهية والتشريعية، والتحديات التي واجهها، مع تقييم مدى تأثيرها في المشهد القانوني الإسلامي المعاصر.

جدير بالذكر أن تراث الزرقا مازال يُستلهم اليوم في العديد من المجالات، مثل وضع الدساتير حيث تنص العديد منها على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وفي التشريعات المالية كقوانين الصكوك الإسلامية في ماليزيا والخليج، وكذلك في التعليم القانوني حيث تُدرَّس كتبه في العديد من الجامعات الإسلامية.

كما أن دراسة شخصية الزرقا اليوم تكتسب أهمية خاصة لأنه يمثل نموذجاً عملياً لكيفية التعامل مع الشريعة ليس كتراث تاريخي، بل كمنظومة حية قادرة على حل إشكاليات المجتمع، ومنافسة النظم القانونية الوضعية، مع الحفاظ على الهوية دون انغلاق، لقد كان الزرقا بحق مهندساً للقانون الإسلامي الحديث، يجسد تلك المرحلة الفاصلة في تاريخ الفقه الإسلامي بين الأصالة والحداثة.

فقد شهد العصر الذي عاش فيه مصطفى أحمد الزرقا تحولات كبرى شكلت الإطار التاريخي والسياقي الذي أثر في فكره ومنهجه القانوني، وكما أشرنا أعلاه أنه ولد في مدينة حلب عام 1904 في أواخر العهد العثماني، حيث كانت الدولة العثمانية تمر بمرحلة الاحتضار السياسي والفكري، مما أفرز حالة من الاضطراب والتساؤل حول مستقبل التشريع الإسلامي في ظل تيارات التغريب والاستعمار المتنامية.

ومع نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة العثمانية عام 1924، دخلت البلاد الإسلامية مرحلة جديدة من التجزئة السياسية تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني، حيث فرضت القوى الاستعمارية أنظمة قانونية مستوردة من أوروبا، مما أثار إشكالية كبرى حول مكانة الشريعة الإسلامية في الأنظمة القانونية الناشئة، وفي سوريا تحديداً، حيث نشأ الزرقا، وجد الفقهاء أنفسهم أمام تحدٍ مزدوج، الحفاظ على الهوية الإسلامية من ناحية، ومواكبة متطلبات الدولة الوطنية الحديثة من ناحية أخرى.

بالتالي، في هذا المناخ السياسي المضطرب، برزت حركات الإصلاح الديني والفكري التي حاولت تقديم إجابات لهذه الإشكليات، من أبرزها حركة محمد عبده وتلميذه رشيد رضا التي دعت إلى تجديد الفقه الإسلامي ومواءمته مع العصر، كما ظهرت تيارات سلفية دعت إلى العودة إلى الأصول ورفض أي تجديد، في مقابل تيارات علمانية متطرفة سعت إلى القطيعة الكاملة مع التراث الإسلامي.

أما في الجانب الاجتماعي، كانت المجتمعات العربية تعاني من انقسام حاد بين النخبة المثقفة التي تأثرت بالثقافة الغربية، وعموم الناس الذين ظلوا متمسكين بالتقاليد الدينية، هذا الانقسام انعكس على النظام القانوني، حيث ظهرت ازدواجية بين المحاكم الشرعية التي تحكم وفق الفقه الإسلامي، والمحاكم المدنية التي تطبق القوانين الوضعية المستمدة من التشريعات الأوروبية.

وفي خضم هذه التحولات التاريخية الحاسمة، برزت الإشكالية المركزية التي شغلت الزرقا ورفاقه من المجددين: كيف يمكن الحفاظ على الأصول الشرعية الثابتة مع استيعاب المستجدات العصرية؟ وكيف يمكن تحويل التراث الفقهي المتراكم عبر القرون إلى نظام قانوني متكامل يلبي حاجات المجتمع الحديث؟ هذه الأسئلة المصيرية شكلت المنطلق الأساسي لمشروع الزرقا الإصلاحي، الذي حاول من خلاله تقديم إجابات عملية من داخل المنظومة الفقهية الإسلامية نفسها، دون الوقوع في فخ التقليد الأعمى أو القطيعة مع التراث.

فقد شهد الواقع القانوني في الحقبة التي عاش فيها مصطفى أحمد الزرقا تحولاً جذرياً ترك بصماته العميقة على فكره ومنهجه، فمع انهيار الدولة العثمانية وبداية الانتداب الفرنسي على سوريا، وجد النظام القضائي نفسه أمام مفترق طرق حاسم. كانت المحاكم الشرعية التي ظلت لقرون تحكم وفق المذهب الحنفي السائد تواجه تحدياً وجودياً مع ظهور المحاكم المدنية التي طبقت القانون الوضعي المستورد من فرنسا، هذا الواقع الجديد خلق ازدواجية قانونية صارخة، حيث أصبحت قضايا الأحوال الشخصية فقط هي التي تخضع للفقه الإسلامي، بينما انتقلت مجالات القانون المدني والتجاري والجزائي إلى النظام الوضعي.

وفي هذا المناخ المتأزم، نشأ الزرقا وسط عائلة علمية حنفية عريقة، حيث تلقى تعليمه الأولي في حلقات الفقه التقليدي، لكنه سرعان ما اطلع على النظم القانونية الحديثة، هذا المزج الفريد بين الأصالة والمعاصرة في تكوينه العلمي مكنه من رؤية الثغرات في كلا النظامين، فقد لاحظ كيف أن القضاء الشرعي كان يعاني من الجمود والتشتت في الآراء الفقهية، بينما كانت القوانين الوضعية تفتقر إلى الجذور الثقافية التي تتوافق مع قيم المجتمع.

جدير بالذكر أن الزرقا تأثر بهذا الواقع القانوني المضطرب تأثراً بالغاً، فجعل همه الأساسي سد هذه الفجوة، حيث رأى أن حل الإشكالية لا يكمن في رفض الحداثة ولا في الانسلاخ عن التراث، بل في إعادة صياغة الفقه الإسلامي بصيغة قانونية حديثة، من هنا جاء مشروعه الطموح لتقنين الفقه الحنفي، حيث سعى إلى تحويل النصوص الفقهية المبعثرة إلى مواد قانونية منظمة، تحافظ على الأصول الشرعية مع مراعاة حاجات العصر.

وفي كتاباته ومحاضراته، كان الزرقا يؤكد على أن التحدي الحقيقي ليس في النصوص الشرعية نفسها، بل في كيفية صياغتها بلغة قانونية واضحة ومتسقة، وقد تجلى هذا المنهج بوضوح في مشاركته في وضع القانون المدني السوري، حيث نجح في إدخال العديد من الأحكام الفقهية الأصيلة في صلب التشريع الحديث، خاصة في مجالات المعاملات المالية والعقود، لكن هذا المسار لم يكن خالياً من العقبات، فقد واجه الزرقا انتقادات حادة من طرفين متعارضين: المتمسكين بحرفية النصوص الذين رأوا في عمله خروجاً عن التراث، والعلمانيين المتشددين الذين اعتبروا محاولته مجرد ترقيع لا يواكب العصر، إلا أن الزرقا ظل ثابتاً على منهجه الوسطي، مؤمناً بأن الشريعة الإسلامية تمتلك من المرونة ما يؤهلها لمواكبة التطور دون التخلي عن ثوابتها.

هذا السياق التاريخي المضطرب هو الذي شكل وعي الزرقا القانوني وأكسبه تلك الرؤية الثاقبة، فلم يكن عمله مجرد اجتهادات نظرية، بل كان استجابة عملية لأزمة حقيقية عاشها المجتمع الإسلامي في واحدة من أخطر مراحل تحوله الحضاري، لقد فهم الزرقا أن معركة التشريع هي في جوهرها معركة هوية وحضارة، وأن مستقبل الأمة رهن بقدرتها على صياغة نظام قانوني يجمع بين الأصالة والحداثة.

لقد تمحور عطاء مصطفى أحمد الزرقا الفقهي والقانوني حول إعادة بناء المنظومة التشريعية الإسلامية في صيغة عصرية تواكب تحديات المجتمع الحديث دون التفريط في الأصول الشرعية الراسخة، تخصص الرجل في مجال الفقه المقارن والقانون المدني، حيث أدرك منذ البداية أن المعضلة الكبرى تكمن في الفجوة بين التراث الفقهي المتراكم وبين متطلبات التقنين الحديث، فبينما كان الفقه الإسلامي يعتمد على متون وشروح متشعبة تزخر بالاختلافات المذهبية، كانت الأنظمة القانونية الحديثة تتطلب وضوحاً في الصياغة وانسجاماً في التطبيق.

في هذا الإطار، قدّم الزرقا إسهامات جليلة تمثلت أولاً في مؤلفاته الرائدة التي شكلت نقلة نوعية في الدراسات الفقهية القانونية، يأتي في مقدمتها كتابه الشهير “المدخل الفقهي العام” الذي اعتُبر علامة فارقة في تبويب وترتيب المادة الفقهية وفق منهجية قانونية حديثة، كما ألّف “شرح القانون المدني السوري” حيث مزج ببراعة بين الأصول الحنفية والتنظيم التشريعي المعاصر، ولم تقتصر جهوده على التأليف الأكاديمي، بل امتدت إلى المشاركة الفعلية في صياغة العديد من القوانين السورية والعراقية، حيث نجح في إدخال مفاهيم فقهية أصيلة ضمن الأطر التشريعية الحديثة.

وقد تميزت آراؤه الفقهية بالجرأة والابتكار في معالجة المستجدات العصرية. ففي مجال المعاملات المالية، أعاد صياغة أحكام العقود والبيوع وفق رؤية توفيقية تجمع بين الضوابط الشرعية ومتطلبات الاقتصاد الحديث، كما واجه بذكاء إشكالية الربا من خلال بحث بدائل التمويل الإسلامية التي تحفظ المقاصد الشرعية دون عرقلة حركة المال، أما في مجال الأحوال الشخصية، قدّم قراءات متجددة لقضايا الزواج والطلاق والميراث، محاولاً التوفيق بين النصوص الشرعية وحقوق الأفراد في المجتمع المعاصر.

كما لم يكتف الزرقا بالتنظير الفقهي، بل ساهم بشكل فعال في الإصلاح القضائي من خلال تطوير مناهج التعليم القانوني، حيث أدرك أن تجديد الفقه لن يكتمل دون إعداد جيل جديد من القضاة والمشرعين الذين يجمعون بين الأصالة والمعاصرة، لذا عمل على إدخال المناهج المقارنة في كليات الشريعة، وربط الدراسة الفقهية بالواقع العملي للقضاء.

أما في الجانب الدستوري، كانت لآرائه تأثير واضح في صياغة المواد الدستورية المتعلقة بموقع الشريعة من التشريع، فقد دافع عن مبدأ أن تكون الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع، لكن بفهم يجمع بين الثبات على الأصول ومراعاة تغير الظروف والأحوال، هذا المنهج الوسطي جعله أحد أهم المجددين الذين استطاعوا أن يقدموا الفقه الإسلامي في ثوب قانوني عصري، مؤكداً أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان إذا أحسن فهمها وتطبيقها.

بالتالي، تجاوزت إسهامات الزرقا الحدود الجغرافية لسوريا، حيث أصبحت مؤلفاته مراجع أساسية في جامعات العالم الإسلامي، ولا تزال العديد من آرائه واجتهاداته تشكل أساساً للكثير من التشريعات والقوانين في مختلف البلدان الإسلامية، شاهدة على عبقرية فقيه استطاع أن يبني جسراً متيناً بين تراث الأمة وحاجات عصرها.

جدير بالذكر أن مصطفى أحمد الزرقا اعتمد منهجية فريدة جمعت بين الأصالة والحداثة في تعامله مع النصوص الشرعية والقوانين الوضعية، حيث انطلق من رؤية شمولية تقوم على أساسين متكاملين: التمسك بالجذور الفقهية العميقة من ناحية، والانفتاح على الأدوات القانونية الحديثة من ناحية أخرى، وفي مقاربته للمذاهب الفقهية، لم يقتصر على المذهب الحنفي الذي نشأ عليه، بل اتخذ من الفقه المقارن أداة رئيسية للوصول إلى الأحكام الأنسب للواقع المعاصر، معتبراً أن الاختلاف بين المذاهب الإسلامية ثروة تشريعية تتيح المرونة اللازمة لمواكبة المستجدات.

وفي تعامله مع الشريعة والقوانين الوضعية، اتبع الزرقا منهجاً تكاملياً ذكياً تجلى في قدرته على استنباط الأصول العامة من النصوص الشرعية ثم صياغتها في قوالب قانونية حديثة، كما لم يقف عند حد الموازنة بين النظامين، بل سعى إلى إعادة بناء العلاقة بينهما على أسس جديدة، حيث رأى أن القوانين الوضعية يمكن أن تكون وسيلة لتطبيق المقاصد الشرعية إذا أحسن صياغتها، هذا المنهج التوفيقي لم يكن انسياقاً مع التيار أو محاولة لاسترضاء الأطراف المختلفة، بل نتاج رؤية عميقة تستند إلى إيمان راسخ بمرونة الشريعة الإسلامية وقدرتها على استيعاب متطلبات العصر.

وقد تميزت منهجيته بالاعتماد على آلية “الانتقاء المدروس” من التراث الفقهي، حيث كان يختار من الآراء ما يتلاءم مع روح العصر ويحقق المصالح العامة، دون التخلي عن الضوابط الشرعية، في الوقت نفسه، لم يتردد في نقد بعض القوانين الوضعية عندما تعارضت مع الثوابت الشرعية، مع تقديم البدائل الإسلامية التي تحقق الغايات نفسها بطرق مشروعة، هذا التوازن الدقيق بين الوفاء للأصالة والاستجابة لمتطلبات العصر هو ما جعل إسهاماته تحظى باحترام التيارات المختلفة، من المحافظين إلى المجددين.

وفي مجال التقنين، طور الزرقا منهجية خاصة تعتمد على تحليل النصوص الفقهية تحليلاً مقاصدياً، ثم إعادة صياغتها بلغة قانونية واضحة ومحددة، مع الحرص على تضمينها الضوابط الشرعية الأساسية، لم يكن همه مجرد نقل الأحكام الفقهية إلى قوالب قانونية، بل السعي إلى إبراز حكمة التشريع ومقاصده، مما أعطى قوانينه بعداً إنسانياً وأخلاقياً يتجاوز الجانب الشكلي الصرف، هذا المنهج الحكيم جعل من تجربته نموذجاً يُحتذى في الجمع بين ثراء التراث الإسلامي ومنهجية القانون الحديث، مؤكداً أن التجديد الحقيقي لا يعني القطيعة مع الماضي، بل فهمه فهماً عميقاً يجعله قادراً على الحوار مع الحاضر.

واجه مصطفى أحمد الزرقا في مسيرته العلمية والعملية سلسلة من التحديات الجسيمة التي كادت تعيق مشروعه الإصلاحي، حيث تصدى لموجات متعاقبة من المعارضة من أطراف متباينة، فقد جاءت الهجمات الأكثر شراسة من بعض الأوساط التقليدية التي رأت في اجتهاداته خروجاً عن المألوف، حيث اتهمه البعض بـ”التساهل في الدين” و”الانحراف عن المذهب الحنفي” عندما حاول التوفيق بين النصوص الفقهية ومتطلبات العصر، وفي المقابل، واجه ضغوطاً من التيارات العلمانية المتطرفة التي استهجنت تمسكه بالمرجعية الإسلامية واعتبرت محاولاته لتأصيل القوانين الوضعية من الشريعة مجرد “ترقيع” لا يواكب روح الحداثة.

أما في ظل الاستعمار الفرنسي لسوريا، فقد تعرض لمحاولات متكررة لتهميش دوره وتقييد حركته، حيث رأت السلطات الاستعمارية في مشروعه القانوني تهديداً لمحاولاتها فرنسة النظام القضائي، فقد بلغ الأمر حد اتهامه من قبل بعض المتعاونين مع المستعمر بـ”التعصب الديني” و”عرقلة التقدم”، بينما وصفه بعض خصومه من التيار السلفي بـ”المنهزم أمام الغرب” عندما دعا إلى فهم جديد لبعض القضايا الفقهية.

وفي خضم هذه المعارك الفكرية، تعرض الزرقا لانتقادات لاذعة من عدة جهات، حيث اتهمه بعض المتمسكين بالتراث بـ “الاجتهاد خارج الضوابط” عندما أعاد النظر في بعض المسائل الفقهية الراسخة، بينما وصفه بعض الحداثيين بـ”المتشدد” عندما أصر على بعض الثوابت الشرعية، لكن الرجل واجه هذه الانتقادات بحكمة بالغة، فلم ينغلق على نفسه ولم يرد بالشدة ذاتها، بل قدم ردوداً علمية رصينة في كتبه ومحاضراته، مؤكداً أن تجديد الفقه ليس بدعة، بل هو تحقيق لمقاصد الشريعة التي جاءت لتحقيق مصالح الناس.

أما في مواجهة اتهامات التقليديين، كان يوضح أن اجتهاداته تستند إلى أصول المذهب الحنفي وقواعده الكلية، وأنه لم يخترع من تلقاء نفسه، بل اختار من الآراء الفقهية ما يناسب العصر، وفي رده على العلمانيين، فكان يؤكد أن الشريعة الإسلامية ليست عائقاً أمام التقدم، بل هي نظام متكامل قادر على استيعاب المستجدات إذا أحسن فهمه، لقد آمن الزرقا بأن المعركة الحقيقية ليست بين القديم والجديد، بل بين الصحيح والفاسد، بين ما يحقق مصالح الناس وبين ما يعيق تقدمهم.

بالتالي، لم تكن ردود الزرقا مجرد دفاع عن الذات، بل كانت جزءاً من مشروعه الفكري الكبير الذي سعى من خلاله إلى بناء جسر بين الماضي والحاضر، لقد فهم بعمق أن التجديد الحقيقي لا يعني القطيعة مع التراث، بل إعادة اكتشافه بمنظور جديد يتلاءم مع روح العصر، هذا الموقف المتزن جعله يستمر في مشروعه رغم كل الصعوبات، ليثبت في النهاية أن الفقه الإسلامي ليس مجرد نصوص تاريخية، بل هو نظام حيوي قادر على مواكبة تطورات العصر.

لقد ترك مصطفى أحمد الزرقا إرثاً قانونياً وفقهياً عميقاً تجاوز حدود عصره ومحيطه الجغرافي، حيث استطاع من خلال مشروعه التجديدي أن يخلق مدرسة فكرية خاصة جمعت بين المنهجية الأكاديمية الدقيقة والرؤية الواقعية للتشريع، لقد تغيرت فعلياً العديد من القوانين في سوريا والعراق ومصر بفضل جهوده، خاصة في مجال القانون المدني والأحوال الشخصية، حيث تمكن من إدخال مفاهيم فقهية إسلامية ضمن الأطر التشريعية الحديثة دون إثارة ردود فعل سلبية من التيارات العلمانية.

وما زالت كتب الزرقا وخاصة “المدخل الفقهي العام” و”شرح القانون المدني” تُدرّس في كليات الشريعة والقانون في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، بل إنها أصبحت مراجع أساسية لا غنى عنها لكل باحث في مجال الفقه المقارن والتشريع الإسلامي، بالإضافة إلى ذلك، لا تزال العديد من آرائه واجتهاداته تشكل الأساس النظري للكثير من التطبيقات المعاصرة في البنوك الإسلامية والقضاء الشرعي، مما يؤكد حيوية أفكاره وقدرتها على مواكبة المستجدات.

وعند مقارنة الزرقا بمعاصريه من المجددين مثل مصطفى السباعي وعبد الوهاب خلاف، نجد أنهم يشتركون في السعي إلى التوفيق بين الشريعة والحداثة، لكن الزرقا تميز بتركيزه على الجانب القانوني والتقني أكثر من الجوانب الدعوية والسياسية، بينما اهتم السباعي بالبعد الاجتماعي للإسلام وربط الفقه بالحركة الإسلامية، اتخذ الزرقا مساراً أكثر تخصصاً في مجال التشريع والقضاء، كما اختلف عن خلاف في تركيزه على الجانب التطبيقي للفقه أكثر من الجانب الأصولي النظري.

لقد استطاع الزرقا أن يترك بصمة خاصة في تاريخ الفقه الإسلامي الحديث، حيث مثّل نموذجاً للفقيه القانوني الذي يجمع بين التخصص الدقيق والرؤية الشمولية، حيق لم يقتصر تأثيره على وضع القوانين، بل امتد إلى تغيير النظرة إلى الفقه الإسلامي ذاته، حيث حوّله من علم تاريخي إلى نظام تشريعي حيوي قادر على التفاعل مع كل المستجدات، هذا الإرث الخالد يجعل من الزرقا أحد أبرز المجددين الذين استطاعوا أن يبنوا جسراً متيناً بين تراث الأمة وحاجات عصرها، جسراً لا يزال قائماً حتى اليوم يشهد على عبقرية فقيه استثنائي.

لقد شكلت مسيرة مصطفى أحمد الزرقا نموذجاً ملهماً للاجتهاد الإسلامي المعاصر، حيث استطاع بجدارة أن يثبت إمكانية التوفيق بين الأصالة والحداثة في المجال القانوني، لقد نجح هذا الفقيه المجدد في تحقيق قدر كبير من أهدافه، حيث تمكّن من إدخال العديد من المفاهيم الفقهية الإسلامية في صلب التشريعات المدنية، كما وضع الأسس المنهجية لتعامل الأجيال اللاحقة مع التراث الفقهي. تمثلت قوة منهجه في الجمع الفريد بين العمق الفقهي والفهم الدقيق لمناهج التقنين الحديثة، مع التمسك بمرجعية الشريعة كإطار كلي، كما تميزت مقاربته بالواقعية والمرونة، حيث رفض الجمود على النصوص دون اعتبار للمقاصد والمصالح.

لكن هذا لا يعني أن تجربته كانت خالية من نقاط الضعف، فقد واجه بعض المحددات الموضوعية التي أعاقت اكتمال مشروعه التجديدي. يأتي في مقدمتها ضغط الظروف السياسية والاستعمارية التي أحاطت بمسيرته، إضافة إلى مقاومة بعض الأوساط التقليدية التي لم تستوعب بعدُ ضرورة التجديد، كما يمكن ملاحظة أن بعض اجتهاداته في المجال الاقتصادي ظلت نظرية ولم تجد طريقها للتطبيق الكامل في الواقع.

اليوم، ونحن نواجه تحديات جديدة لم تكن في الحسبان زمن الزرقا، تبرز الحاجة الملحة لإعادة قراءة تراثه برؤية معاصرة. فقضايا مثل التقنية المالية الإسلامية، والطب الشرعي، والمواطنة في الدولة الحديثة، تتطلب استلهاماً جديداً لمنهجه مع تطويره لمواكبة مستجدات العصر، كما أن دراسة تأثير أفكاره في التجارب التشريعية المختلفة في العالم الإسلامي يمكن أن تفتح آفاقاً جديدة للباحثين.

ويبقى الزرقا نموذجاً للفقيه المجتهد الذي فهم روح الشريعة وغاياتها، فلم يقف عند حرفية النصوص، ولم ينغلق على اجتهادات السابقين، لقد علمنا أن التجديد الحقيقي ليس في القطيعة مع التراث، بل في فهمه فهماً عميقاً ما يجعله قادراً على الاستجابة لتحديات كل عصر، هذا الدرس البليغ هو أعظم ما ورثناه من هذه الشخصية الاستثنائية، وهو ما يجعل دراستها وإعادة اكتشافها ضرورة علمية ملحة لكل من يريد أن يساهم في بناء نظام قانوني إسلامي معاصر يحقق مصالح الناس ويحفظ هويتهم الحضارية.

*كاتب ومفكر – الكويت.

Share207Tweet129
  • About
  • Advertise
  • Privacy & Policy
  • Contact
Whatsapp : +96899060010

Welcome Back!

Login to your account below

Forgotten Password?

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Log In

You cannot copy content of this page

No Result
View All Result
  • أخبار
    • الطقس
    • Oman News
  • مقالات
  • وظائف وتدريب
  • ثقافة وأدب
    • شعر
    • خواطر
    • قصص وروايات
    • مجلس الخليلي للشعر
  • تلفزيون
    • بث أرضي للقناة الرياضية
  • لا للشائعات
  • المنتديات

Copyright © 2024