شكلت أحداث السابع من أكتوبر 2023 زلزالاً سياسياً وأمنياً هز أركان الشرق الأوسط، وكشف عن تحولات بنيوية عميقة في موازين القوى الإقليمية والدولية، هذه الأزمة التي تفجرت في ظل نظام دولي يشهد تحولات جذرية، فرضت إعادة النظر في المسلمات الاستراتيجية التي حكمت المنطقة لعقود، وفتحت الباب أمام سيناريوهات متعددة لمستقبل الشرق الأوسط في ظل تنامي التنافس الدولي وتصاعد دور الفواعل غير الدولة.
السياق التاريخي والجيوسياسي للأزمة
تمتد جذور الأزمة الحالية إلى تراكمات تاريخية وسياسية تعود إلى عقود مضت، حيث تشكلت أنماط الصراع في المنطقة عبر تفاعل معقد بين العوامل الداخلية والإقليمية والدولية. لقد نشأ النظام الإقليمي الشرق أوسطي في أعقاب الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، وتشكل عبر سلسلة من الأزمات والتحولات التي كان أبرزها حرب 1948، وحرب 1967، واتفاقات أوسلو 1993. ومع ذلك، فإن أحداث أكتوبر 2023 تمثل نقطة تحول نوعية في هذا المسار التاريخي، حيث كسرت العديد من الثوابت الاستراتيجية وأعادت تشكيل التحالفات الإقليمية بطرق غير مسبوقة.
تحولات العقيدة الأمنية “الإسرائيلية”
أدت الأحداث إلى زعزعة المفاهيم الأساسية التي قامت عليها العقيدة الأمنية الإسرائيلية منذ تأسيس الدولة. فمبدأ “الردع” الذي شكل حجر الزاوية في الاستراتيجية الإسرائيلية منذ حرب أكتوبر 1973، تعرض لاهتزاز كبير مع نجاح الهجوم المفاجئ في اختراق الخطوط الدفاعية الإسرائيلية. هذا التطور دفع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية إلى إعادة النظر جذرياً في مفاهيمها الاستراتيجية، حيث انتقل التركيز من “الردع النسبي” إلى البحث عن “الأمن المطلق”، مع ما يرافق ذلك من تداعيات على سياسات استخدام القوة والعلاقات مع الجوار الإقليمي.
من الناحية القانونية، أثارت الاستجابة الإسرائيلية للأزمة تساؤلات عميقة حول تفسير وتطبيق المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة المتعلقة بحق الدفاع عن النفس. فالتوسع في العمليات العسكرية خارج الحدود، واستهداف البنى التحتية المدنية، واستخدام أساليب الحصار الشامل، جميعها طرح إشكاليات قانونية تتعلق بمبادئ التناسب والتمييز في القانون الدولي الإنساني. كما أثارت مسألة المسؤولية الدولية عن أعمال الجماعات المسلحة جدلاً قانونياً حول حدود حق الدفاع عن النفس في مواجهة فواعل غير دولة تعمل من أراضٍ خاضعة لسيطرة طرف ثالث.
صعود محور المقاومة وإشكاليات القانون الدولي
من جهة أخرى، أظهرت الأزمة تصاعداً ملحوظاً في دور محور المقاومة كفاعل رئيسي في المعادلة الإقليمية. هذا التحول أبرز تعقيدات قانونية وسياسية تتعلق بطبيعة العلاقة بين الدول والجماعات المسلحة في القانون الدولي. فمسألة “الحرب بالوكالة” التي أصبحت سمة مميزة للصراعات في المنطقة، تطرح تحديات أمام المنظومة القانونية الدولية التي صممت أساساً للتعامل مع نزاعات بين دول ذات سيادة.
لقد كشفت الأزمة عن فجوة كبيرة بين النظرية القانونية والممارسة العملية في التعامل مع ظاهرة “الدولة العميقة” وعلاقتها بالجماعات المسلحة. فمن ناحية، يظل مبدأ مسؤولية الدولة عن أعمال القوات غير النظامية خاضعاً لمعايير صارمة في القانون الدولي، لكن من ناحية أخرى، فإن تعقيدات المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط تفرض إعادة النظر في هذه المقاربات التقليدية. هذا الواقع يقتضي تطوير أطر قانونية أكثر مرونة وقدرة على التعامل مع تعقيدات الصراعات المعاصرة، دون المساس بالمبادئ الأساسية للقانون الدولي.
السياسات العربية بين الثوابت والمتغيرات
على الصعيد العربي، كشفت الأزمة عن انقسامات عميقة في المواقف الرسمية والشعبية تجاه الصراع. فمن ناحية، أظهرت بعض الحكومات العربية حذراً في التعامل مع الأزمة، مع التركيز على الحلول الدبلوماسية وضرورة حماية المدنيين. ومن ناحية أخرى، شهدت الشارع العربي موجة عارمة من التضامن مع القضية الفلسطينية، مما وضع الحكومات العربية أمام تحديات كبيرة في التوفيق بين الضغوط الشعبية والاعتبارات السياسية والاقتصادية.
لقد أثرت هذه الأزمة بشكل كبير على مسارات التطبيع العربي مع إسرائيل، حيث أدت إلى تجميد بعض اتفاقيات التطبيع أو إعادة النظر فيها. هذا التطور يطرح تساؤلات حول مستقبل “اتفاقات إبراهيم” ومشاريع التكامل الإقليمي التي كانت قد بدأت تظهر قبل الأزمة. من الناحية القانونية، أعادت الأزمة إحياء النقاش حول وضع القضية الفلسطينية في النظام القانوني العربي، ومدى التزام الدول العربية بالقرارات الصادرة عن جامعة الدول العربية ومؤتمرات القمة العربية في هذا الشأن.
التحولات في السياسة الدولية
على المستوى الدولي، كشفت الأزمة عن عمق التحولات في موازين القوى العالمية وطبيعة التنافس الدولي على النفوذ في الشرق الأوسط. فمن ناحية، أظهرت الولايات المتحدة التزاماً قوياً بدعم إسرائيل، لكن هذا الدعم جاء في سياق متغير يتميز بتراجع النفوذ الأمريكي النسبي في المنطقة وتصاعد دور القوى الدولية البديلة.
لقد برزت روسيا كوسيط محتمل في الأزمة، مستفيدة من شبكة علاقاتها المعقدة مع مختلف الأطراف في المنطقة. أما الصين، فقد حرصت على تقديم نفسها كقوة دولية محايدة ومدافعة عن العدالة الدولية، مع التركيز على الحلول السياسية واحترام القانون الدولي. هذا التحول في الأدوار يعكس التغيرات الجذرية في النظام الدولي، حيث لم تعد الولايات المتحدة القوة الوحيدة القادرة على لعب دور الوسيط في النزاعات الإقليمية.
عجز المنظومة الدولية وتحديات الإصلاح
أظهرت الأزمة بشكل صارخ محدودية المنظومة الدولية في التعامل مع الأزمات المعقدة. فمجلس الأمن، بفعل نظام الفيتو والانقسامات بين الأعضاء الدائمين، عجز عن إصدار قرارات حاسمة للتعامل مع الأزمة. كما كشفت الأزمة عن التحديات التي تواجه المحكمة الجنائية الدولية في التحقيق في انتهاكات القانون الدولي في ظل تعقيدات السياسة الدولية.
هذا الواقع يفرض إعادة نظر شاملة في آليات عمل المنظومة الدولية، مع ضرورة تطوير أدوات أكثر فعالية للوقاية من النزاعات وحلها. فمن الواضح أن الآليات الحالية التي تأسست في أعقاب الحرب العالمية الثانية لم تعد كافية للتعامل مع تعقيدات الصراعات المعاصرة، مما يتطلب إصلاحات جذرية في هيكل الحوكمة العالمية.
إشكاليات القانون الدولي في الصراعات المعاصرة
تطرح الأزمة الحالية تحديات نظرية وعملية أمام القانون الدولي، خاصة فيما يتعلق بتطبيق مبادئ القانون الدولي الإنساني في سياقات النزاع غير المتماثل. فمسائل مثل التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية، ومبدأ التناسب في استخدام القوة، وحماية المدنيين في النزاعات المسلحة، جميعها أصبحت موضع اختبار في ظل تعقيدات المشهد الإقليمي.
كما أثارت الأزمة جدلاً قانونياً حول مفهوم “حق الدفاع عن النفس” في مواجهة فواعل غير دولة، وحدود هذا الحق في القانون الدولي. فالتوسع في تفسير هذا المبدأ يهدد بزعزعة الاستقرار الإقليمي والدولي، بينما التضييق الشديد فيه قد يقوض قدرة الدول على حماية أمنها القومي. هذا التوتر بين متطلبات الأمن وضرورات العدالة يشكل أحد التحديات المركزية التي تواجه القانون الدولي في القرن الحادي والعشرين.
مستقبل التسوية السياسية وتحدياتها
في ظل هذه التحولات الجيوسياسية والقانونية، يبدو مستقبل التسوية السياسية للصراع أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. فمن ناحية، أدت الأزمة إلى زعزعة الثقة في النهج الأمني كوسيلة لحل الصراع، ومن ناحية أخرى، فإن العقبات الهيكلية التي تواجه حل الدولتين تبدو أكثر حدة في أعقاب الأحداث الأخيرة.
إن مسائل مثل وضع القدس والمستوطنات واللاجئين، والتي ظلت معلقة لعقود، باتت أكثر إلحاحاً في ظل المتغيرات الجديدة. كما أن توزيع القوى السياسية داخل المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني يشهد تحولات عميقة قد تؤثر على أي مسار تسوية مستقبلي. هذا الواقع يقتضي مقاربة شاملة تعالج ليس فقط الأعراض الأمنية للأزمة، بل أيضاً جذورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
السيناريوهات المستقبلية وآفاق الحل
في ضوء هذه التحولات العميقة، يمكن تصور عدة سيناريوهات لمستقبل الصراع في المنطقة:
أولاً، سيناريو التصعيد الإقليمي الشامل: حيث تتحول الأزمة إلى مواجهة إقليمية واسعة النطاق تشمل عدة جبهات.
ثانياً، سيناريو التسوية المؤقتة: عبر التوصل إلى هدنة طويلة الأمد مع تأجيل الحلول الجذرية.
ثالثاَ، سيناريو التحول الجيوسياسي العميق: حيث تؤدي الأزمة إلى إعادة هيكلة جذرية لخريطة التحالفات والنفوذ في المنطقة.
رابعاً، سيناريو التدويل الكامل: مع تحويل الملف بالكامل إلى المجتمع الدولي وإدارته عبر آليات دولية.
نحو رؤية شاملة للإصلاح
في مواجهة هذه التحديات المعقدة، تبرز الحاجة إلى رؤية شاملة للإصلاح تقوم على عدة ركائز:
أولاً: إصلاح المنظومة القانونية الدولية لتكون أكثر قدرة على التعامل مع تعقيدات الصراعات المعاصرة.
ثانياً: تطوير آليات إقليمية فاعلة لإدارة الأزمات ومنع التصعيد.
ثالثاً: اعتماد مقاربات شاملة تعالج جذور الصراع وليس أعراضه فقط.
رابعاً: تعزيز الحوار الإقليمي والدولي لإيجاد حلول عادلة ودائمة.
بالتالي، إن أحداث أكتوبر 2023 وما تلاها من تطورات تمثل لحظة مفصلية في تاريخ الشرق الأوسط، حيث تلتقي فيها تحولات جيوسياسية عميقة مع تحديات نظام القانون الدولي. إن التعامل الناجح مع هذه الأزمة يتطلب رؤية استراتيجية شاملة تجمع بين متطلبات الأمن وضرورات العدالة، بين الاعتبارات الإقليمية والمصالح الدولية، وبين واقع القوة ومتطلبات القانون، فقط عبر هذه المقاربة المتكاملة يمكن الخروج من هذه الأزمة بنظام إقليمي أكثر استقراراً وعدالة.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.