ذكرنا في المواضيع السابقة أن علم التفسير، هو العلم الذي يُعنى ببيان المعنى المراد من القرآن الكريم، لأن المعنى المراد هو أساس التفسير، حيث بدأ التفسير ببيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاني بعض آيات القرآن الكريم، وتتابع على ذلك الصحابة والتابعون وأتباعهم.
بالتالي، مر التفسير بمراحل عدة، فلقد توسع العلماء في التفسير والتصنيف فيه وتنوعت مناهجه، من خلال معرفة الأسس العلمية التي يرجع إليها بيان المعنى المراد وتحرير الاختلاف فيه، وقواعده وغير ذلك، إلى جانب أن للمفسر شروط وآداب يجب أن يتمتع بها، وركزنا في مواضيع تفسير سورة طه إبراز وإظهار جوانب البلاغة القرآنية من معاني وبيان وبديع، وما يتصل من إعجاز قرآني ومناسبات ومقاصد السور.
إن علم المعاني من بين علوم البلاغة العربية له دور مهم في إظهار إعجاز القرآن الكريم، كذلك للبديع منزلة كبيرة في مجال الدراسات الإسلامية لما له من دور بارز في التعرف إلى أسرار القرآن ودلائل إعجازه، لا تقل شأناً عن منزلة علمي المعاني والبيان، وكذلك بلاغة القرآن وبديعه تطورت من دراسة لغوية إلى دراسة بلاغية على يد بعض المفسرين والأدباء الذين لم يتركوا مؤلفاً في كتب بلاغة القرآن إلا ذكروا فيه بعضاً من الأنواع البديعية وبيانها في القرآن والتمثيل لها بآياته، للكشف عن إعجاز القرآن، والغرض من ذلك كله ألا تكون المحسنات البديعية منسية بين علوم البلاغة العربية، فاللغة العربية، لغة حية ومن الطبيعي أن تتطور على مر العصور بما يخدم السياق القرآني والبلاغي في آنٍ معاً، فكانت البلاغة هي ملتقى علوم اللغة من كلمة فصيحة وصولاً إلى جملة بليغة، ومن بين من اجتهدوا في هذا العلم، عبدالله بن المعتز، في كتابه “البديع”، ثم لدينا سيبويه، الذي تحدث عن خصائص التراكيب وأوجه الدقة في استعمال الألفاظ، مثل التقديم والتأخير والتعريف والتنكير، كذلك الفراء الذي تحدث في كتابه “معاني القرآن” عن مسائل بلاغية مهمة كالتشبيه والاستعارة والكناية، وأبو عبيدة في كتابه “مجاز القرآن”، والجرجاني في كتابه “أسرار البلاغة” و”دلائل الإعجاز”.
من هنا، في البلاغة القرآنية، يتساوى فيها ألوان البديع وفنون المعاني والبيان، فبلاغة القرآن المعجز تحيط كل هذه الألوان والفنون، وعن ألوان البديع ذكر الزمخشري في تفسيره، عرض للمشاكلة والمطابقة وللجناس والمزاوجة والتقسيم، كما عرض لفنون البيان والمعاني، من حيث أثرها في قوة الكلام وبلاغته، ما يعني أن الومخشري قد أشاد ببلاغة القرآن المعجزة التي تحيط به كل هذه الفنون وتوجد فيها على أحسن صورة وأقوم منهج، ومثال ذلك في قوله تعالى: (اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير)، فمثلاً اتخذت البلاغة القرآنية عند عبد القاهر الجرجاني، منهجاً جديداً غير مقلداً وألف كتاب “دلائل الإعجاز” ليثبت فيه بلاغة القرآن الكريم.
من هذا السرد المبسط لما يوضح اختياري للسير في بلاغة القرآن الكريم وإعجازه عبر تفسير سورة طه في الوقت الحالي، على أن يتبعها سور أخرى مهمة وتتضمن جمالاً بلاغياً وإعجازاً وبياناً وبديعاً لا يمكن إيجاده في أي شعر أو كتاب أو مؤلف، إلا في كتاب الله المعجزة، قال تبارك وتعالى: (قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرةً أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبةً مني ولتصنع على عيني إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدرٍ يا موسى واصطنعتك لنفسي)، طلب الله عز وجل من أم موسى أن تقذفه في التابوت، ولم يقل أنيميه في التابوت، وذلك ليقوي من قلب هذه الأم ويشد من أزرها، وكأنه يقول لها إن “ابنك لن يُصاب بأذىً” لو فعلتِ ما يُملى عليكِ وما يُطلب منكِ، اقذفيه في اليم الذي سيلقيه في الساحل ليأخذه عدو مشترك (وألقيت عليك محبةً مني ولتصنع على عيني)، رعاية الله وعينه كانت تتابع موسى في هذا المكان العجيب الذي يعيش فيه أعدى أعداء موسى، وسوف يكون بعد ذلك نذير هلاك الفرعون وقومه، فما معنى ذلك؟
معنى ذلك أن القدرة الإلهية استطاعت أن تستخرج النقيض من النقيض، من الخوف كان الأمان، من العرب كان الهدوء، كل هذا حدث في قصة موسى، (إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله)، القدرة الإلهية دبرت لهذا الطفل تموينه وغذائه، وأن المسألة ليست مجرد أن تُهيأ له مرضع، وإنما حرّم الله عليه المراضع، وكل ما عرضوا عليه مرضعاً رفضها، وكأنه إنسان مدرك، فتأتي أخته وتدلهم على مرضع، فتعلقوا بها، من هي التي تستطيع أن ترضع هذا الطفل الذي يرفض كل المرضعات، فهل توجد من بينهن من يقبل بها هذا الرضيع، (فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن) الله عز وجل يرعى هذه الأم التي كلّفت بما لم تكلف به أم في التاريخ كله، كلفت أن تلقي بولدها في التابوت، ثم تلقي به في اليم، ومن ثم تنتظر النتيجة التي لا تعرفها هي ولا تستطيع أن تتنبأ بها، ثم بعد ذلك، يرد هذا الوليد إلى أمه كي تقر عينها، هذا الأمر من أجمل لمحات الرحمة الإلهية، الله تبارك وتعالى، رحم أم موسى بعد أن اختبرها واختبر إرادتها، أسبغ عليها من رحمته ما قرّت به عينها وما زال به حزنها، وكذلك تستمر القصة بفيضٍ من الرحمات على موسى وعلى أمه، حتى تمت إرادة الله وقال له: (ولتصنع على عيني).
ثم عدّد الله نعمةً أخرى (وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدرٍ يا موسى واصطنعتك لنفسي)، الله تبارك وتعالى يذكر موسى بأنه أنجاه من القوم، عندما (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين) يريدون أن يقتلوه لأنه قتل المصري انتصاراً للإسرائيلي والذي حدث أنه هرب وذهب إلى مدين، وهنالك كان ما كان، وللحديث بقية في استكمال تفسير سورة طه.
من هنا، لقد أكرمنا الله تبارك وتعالى بمعجزة نزول ولا تزول، خالدة أبد الدهر، شغلت عقول المفسرين وعلماء اللغة والنقاد والمحدثين، فانكبوا عليه لدراسته (ذكر القرآن، حبل الله الممدود وعهده المعهود، وظله العميم، وصراطه المستقيم)، فالإعجاز البلاغي هو ضعف القدرة البشرية عن الإتيان بمثل القرآن الكريم، كما في قوله: (والذين سعوا في آياتنا معاجزين)، بالتالي، كانت البلاغة هي الطريق الأمثل لفهم الإعجاز القرآني، عدا عن الحكمة الإلهية والمعجزات الربانية ومقاصد الحياة الشرعية، كلها تجتمع في القرآن الكريم، وإذا ما نقبنا فإن كل جانب هو علم مستقل بذاته، يحتاج مقالات طويلة لسبر أغواره، إلا أن ما يعنينا هنا بالمقام الأول هو إدراك عظمة القرآن الكريم من خلال مال معانيه وعمق ألفاظه وقوتها.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان