و لأول مرة في حياتي ينتابني شعور الرهبة و يخفق قلبي بهذه السرعة و ترتجف يداي و كأنها لا تريد أن تكتب عن ذلك المصاب الجلل الذي ألم بنا بوفاة جدي الغالي “سالمين” ، مازلت أتذكر عصر ذلك السبت الحزين الذي ظنناه يومًا عاديًا كباقي أيامنا العادية إلى أن سمعنا أنا و أختي صراخ أمي و عمتي وهن يحاولن إيقاظ جدي النائم و الذي اعتدنا عليه أن ينام في مثل هذا الوقت لكِبر سنه وما يعانيه من بعض الأمراض و لكن هذه المرة هو نائم ولن يستيقظ من نومه أبدًا.
ما بين صراخات أمي و عمتي و نقله للمشفى عم الصمت و الهدوء أرجاء المنزل و كأن الزمن توقف في هذه الدقائق المعدودة و نحن نرقب ما يجري في صدمة و ذهول ما الذي أصاب جدي و لماذا لم يتحرك و لم يفتح عيناه لماذا و لماذا و غيرها من الأسئلة التي راودتنا في تلك اللحظات العصيبة و لكنها في الأصل كانت هروب من حقيقة واحدة مفداها : (( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ))
بالفعل مات جدي صُعقنا .. صرخنا.. بكينا.. مات الأب .. مات الجد.. مات صاحب القلب الطيب.. بهي الطلة.. خفيف الظل.. جميل المحيا.
مُت يا جدي و كيف لي أن أصِف لك ذلك الحزن الذي اجتاح حيّنا و لم يستطِع فيه الأهالي إخفاء فجيعتهم و حسرتهم على فراقك كأنهم لم يحزنوا و لم يفقدوا غالٍ من قبل لفقدانهم للمربي و الصاحب و رفيق الدرب الذي لم يتوانَ يومًا عن تقديم المساعدة بأي شكل الأشكال لمن يحتاجها.
نفتقدك يا جدي افتقاد الابن لوالده و لم تكُف ألسنتنا منذ رحليك عن ذكر مآثرك و في كل ليلة نتسامر أنا و إخوتي للحديث عن ما جمعنا بك من ذكريات جميلة و مواقف طريفة، و كلما اعترتنا أي مشكلة أو موقف صعب زاد شوقنا و حنينا إليك لننهي كلامنا و في القلب غصة لو كنت بيننا لفعلت كذا و لأمرت بكذا، و حتى مزرعتك يا جدي و التي لطالما أحببتها و سقيتها من عرق جبينك ماتت و ماتت أشجارها شجرة تلو الأخرى و أصبحت أرض قاحلة لا ماء فيها و لا مرعى.
سوف يتزوج يا جدي حفيدك “عبدالحميد” عما قريب و لن تكون بيننا في أول فرحٍ لنا و لكن عزاؤنا الوحيد بأن روحك الطاهرة ستبقى حاضرة معنا تحفنا من كل صوب.
نحن نؤمن بأن كل نفس ذائقة الموت و ما نحن في هذه الحياة إلا مجرد جنائز مؤجلة ستغادرها عندما يحين موعد رحيلها مع ذلك ليست بهذه البساطة التي يعتقدها البعض بأنك تستطيع أن تتخطى مشاعر الألم و الأسى على شخص قد عاشرته طويلاً و قاسمته في كل شيء في المأكل و المشرب و المسكن و كان لك بمثابة الملاذ الحاني و الحضن الدافئ كلما ضاقت بك الدنيا؛ تعود إليه ليطبب عليك و يأخذ بيديك لمواجهة تحدياتها و عراقيلها بقلب قوي .
مر عام على وفاة جدي و لم يجرؤ قلمي حينئذ أن يكتب عن هذا الحدث الأليم لأن مهما أوتيَ الإنسان من فصاحة اللسان و حسن التعبير في الكتابة لا تقوى نفسه على وصف لحظات الضعف التي يمر بها بفقدانه لأحد أحبائه.
ربما لن تمس كلماتي هذه و لن يشعر بها إلا من فقد عزيزًا على قلبه فهو يعلم جيدًا كيف أن بموت هذا العزيز يموت شيئًا ما بداخله و إن حياته لم تعد مثلما كانت عليه بوجود هذا الشخص.
و آخر ما أختم قولي.. جدي الحبيب عليك رحمات ربي و سلامه إلى يوم يبعثون.
رحمة بنت صالح الهدابية