كما أشرنا سابقاً، إن موضوع الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم موضوع مهم جداً، لأنه يمس العقيدة الإسلامية إلى جانب أن الإعجاز البياني البلاغي أهم عناصر الإعجاز في القرآن، وإن قارئ القرآن أو سامعه تأخذه هيبة وخشوع أمام آياته المعجزة تسحر القلوب والنفوس معاً، قال تبارك وتعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها لناس لعلهم يتفكرون).
ومن أهم أوجه إعجاز القرآن الكريم، الغيبيات ما يعني ويؤكد أن القرآن الكريم ليس من صنع البشر وهي حقيقة دامغة لا نحاول من خلالها إثبات أمر مسلّم به، القرآن أخبر عن الحرب التي ستقع بين الروم والفرس ويكون الانتصار حليف الروم، قال تعالى: (ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين)، ومن وجوه الإعجاز القرآني، التشريع الإلهي المتكامل لذي يسمو فوق كل تشريع وضعي من صنع البشر، القرآن هو الذي وضع أصول العقائد وأحكام العبادات وقوانين الفضائل والآداب، هو الذي نظم الأسرة والمجتمع، ووضع كل متطلبات الإنسان بصورة عادلة من حرية ومساواة وعدالة وكل عمل خير في الدنيا لمكاسب الآخرة، إضافة إلى الجانب البياني البليغ في كل سورة وآية ومقطع وفقرة في كل مشهد أو قصة من القرآن الكريم يمتاز القرآن بأسلوب إيقاعي غنى بموسيقى خاصة ونغم أخاذ، القرآن نسيج واحد في بلاغته وسحر بيانه، قال تعالى: (ووجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة).
بالتالي، إنّ الحديث عن الإعجاز القرآني هو الحديث عن البيان الربّاني، وهذا البيان مشغلة العقل العربي في كلّ الأزمنة، لأنّ القرآن الكريم وجود لغوي ركّب كلّ ما فيه أحسن تركيب ليبقى خالداً مع الإنسانيّة، فيأتي الجيل من الناس ويمضي وهو باقٍ بإعجازه وحقائقه ينتظر الجيل الذي يخلفه على حدّ تعبير الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، والبحث في وجوه إعجازه واجب على علماء الأمّة في كلّ الأزمنة يقول في ذلك الأستاذ محمد رشيد رضا، مؤسس مجلّة المنار بالقاهرة للردّ على المتحاملين على الإسلام وللدفاع عنه وعن إعجازه أمام الحملات التضليليّة: “إنّ الكلام في وجوه إعجاز القرآن واجبٌ شرعاً، وهو من فروض الكفاية، وقد تكلّم فيه المفسّرون والمتكلّمون وبلغاء الأدب المتأنّقون، ووجب على بلغاء الأدب في عصرنا هذا الحديث عن بلاغته وتصوير إعجازه”، وذكر من القدامى عبد القاهر الجرجاني في كتابيه (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز) والقاضي البقلاني في كتابه (إعجاز القرآن) وقال إنّ هذه الكتب وفّت بحاجة أزمنتها ولم تعد تفي بحاجة زماننا لذا وجب على بلغاء الأدب في عصرنا الحديث عنه، وضرب مثالاً عن المعاصرين الذين تحدّثوا عنه بمصطفى صادق الرافعي في كتابه (إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة). وقد تناولت الكثير من الكتب الحديثة مظاهر أخرى من الإعجاز كإعجازه العلمي والغيبي والتشريعي وغيرها وكلّها عجز البشر عن الإتيان بمثلها، والكثير من العلماء القدامى والمعاصرين أمثال ضياء الدين بن الأثير والأستاذ شوقي ضيف يرون أنّ ترويض اللسان على آياته سرّ من أسرار تعلّم البلاغة وطلاقة اللسان وفيها غنى عن دروس كتب البلاغة لأنّ فيها من الفصاحة والبلاغة ما لا يوجد في كتب أرباب الصناعة البيانيّة، وكذلك من حيث المعارف اللغوية والعقلية والذوقية، للكشف عن تفاصيل المنظومة القرآنية التي بها يظهر الإعجاز، وتتكشف دقائق خصائص الأسلوب القرآني التي حيّرت البلغاء، ليحق عليهم التحدي المعجز إلى يوم القيامة.
قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم من سورة طه: (ولقد مننا عليك مرةً أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبّة منّي ولتصنع على عيني، إذ تمشي أختك فتقول هل أدلّكم على من يكفله فرجعناك إلى أمّك كي تقرّ عينها ولا تحزن وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي)، مرةً أخرى نعود لهذه الآيات لترابطها معاً في المعنى، والتي لا يملك البيان البشري الإنساني قدرة على تصوير ما جرى فيها، ما قدمته هذه الآيات من روعة التصوير ومن جلال العناية الإلهية من عظمة القدرة الإلهية في تنفيذ الأقدار رغم كل الأخطار، عندما يقول الله عز وجل (ولقد مننا عليك مرةً أخرى إذ اوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبّة منّي ولتصنع على عيني) ما أروع هذه الآية التي تصور موقفاً من أخطر المواقف، إنها تقدم لنا صورةً نادرةً في تجاربنا البشرية، كأنها تقول لنا إن أفضل وسيلةٍ لمواجهة الأخطار هي اقتحام الأخطار وليس الهروب منها، وهكذا ما كان مع موسى وأمه، فخشية الأم إن وقع وليدها بيد فرعون هذا يعني أنه سيذبح، فكان فرعون قد قسّم الزمن قسمين، عاماً يذبح فيه الأطفال، وعاماً آخر يعفيهم من الذبح، وشاءت الأقدار أن يولد موسى في عام الذبح فكانت أمه مشفقة عليه وخائفة مما سيتعرض له وليدها، فيأتي إلهام الله تبارك وتعالى للمرأة بأنه إذا شئتِ أن ينجو ولدك فلا بد ان تدفعي به في الخطر في وجه الخطر ولا تخشي عليه شيئاً، هذا هو ما ينبغي أن يكون.
لا شك بأن هذا الأمر قاعدة، الأمم التي تخاف الأخطار، تنهار وتضيع وتأكلها كل الأخطار، أما الأمم التي تواجه الأخطار هي الأمم التي يُكتب لها البقاء، كما اليوم في مأساة قتل المسلمين في الهند، لدفع الخطر على الأمة الإسلامية أن تواجه، لا نقول قتالاً، لكن هناك آلاف الطرق للضغط على الحكومات الظالمة لوقف اعتداءاتها على الشعوب المستضعفة، أهمها توحيد الموقف، مقاطعة البضائع الهندية، مقاطعة العمالة الهندية، إلغاء الاتفاقيات والشراكة إن وجدت، والكثير غير ذلك، فرنسا عندما مسّ الخطر أمنها من إلغاء صفقة الغواصات، والخسارة مالية، استدعت مباشرة سفيري أستراليا والولايات المتحدة، بينما قتل المسلمين على يد الهندوس، لم نجد دولة واحدة استدعت سفيراً هندياً تضغط بهذا الإجراء على بلاده، فرعون تجبر لكن كان نبي الله موسى في مواجهته، ومع خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووصاياه لنا كأمة مترامية الأطراف، ماذا نحن فاعلون؟
إذاً، هذه هو الأسلوب الذي تصوره الآية، (إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل)، كل هذه أوامر خطيرة كما أشرنا في الموضوع السابق، ترد في مخيلة أم موسى على أنها طريقة لالتماس النجاة، الله عز وجل أوحى إليها أي ألهمها فهي ليست نبية ولا نبية في تاريخ البشرية وإنما هي امرأة عادية، لكن الإلهام الذي دفعها لتقم بما قامت به لا شك بأن ذلك خطة إلهية محكمة من وحي الله وإلهامه عز وجل، والهروب هنا في هذه الحالة ليس إلا وسيلة لسلوك درب الهلاك، فدفع موسى إلى الخطر وهو لا حول له ولا قوة، هو مواجهة الخطر لتتولاه عناية الله، هذه العناية هي من ألهمت أم موسى، يقول: (ياخذه عدو لي وعدو وله) إنها تجربة رهيبة جداً أن تقذف بابنها في التابوت ثم يُقذف التابوت في البحر، ويلقي البحر بالتابوت على الساحل وأين النهاية أم موسى لا تدري لكن في داخلها أن التابوت سيثير دهشة الساكنين على الشاطئ ليعرفوا ماذا في داخله، وفي داخله طفل رضيع وحتماً هذا الأمر سيصل إلى مسامع فرعون الذي هو عدو هذا الطفل ولكن الله ألقى على الطفل محبة منه (وألقيت عليك محبةً مني) ماذا نملك في تصوير هذا التعبير الإلهي؟ وما حقيقة هذه المحبة؟ وكيف ألقيت على الطفل؟ أو أنها ألقيت على الموقف كله فأشاعت جواً من البهجة والحب (ولتصنع على عيني) لقد صنع الله موسى وأنشأه في حجر فرعون ألد أعدائه، ويسخر فرعون في رعايته وحفظه.
ولعل أغلب المفسرين ذهلوا من عظمة هذه الآيات وشدة وقعها على الأذهان، في ظلال القرآن لسيد قطب، (إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل)، حركات كلها عنف وكلها خشونة، قذف في التابوت بالطفل. وقذف في اليم بالتابوت، وإلقاء للتابوت على الساحل، ثم ماذا؟ أين يذهب التابوت المقذوف فيه بالطفل المقذوف في اليم الملقى به على الساحل من يتسلمه، العدو فرعون، (يأخذه عدو لي وعدو له)، وفي تفسير الطبري جعلته أمه في تابوت صغير، ومهدت له فيه، ثم عمدت إلى النيل فقذفته فيه، وأصبح فرعون في مجلس له كان يجلسه على شفير النيل كل غداة، فبينما هو جالس، إذ مر النيل بالتابوت فقذف به وآسية ابنة مزاحم امرأته جالسة إلى جنبه، فقال: إن هذا لشيء في البحر، فأتوني به، فخرج إليه أعوانه حتى جاءوا به، ففتح التابوت فإذا فيه صبي في مهده. وأما الزمخشري (وألقيت عليك محبةً مني)، أني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب. وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة، أي: محبة حاصلة أو واقعة مني، قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك أي موسى. (ولتصنع على عيني): في تفسير الجلالين تعني تربى على رعايتي وحفظي لك، وهذا يعني أن التفسير البلاغي كله نقل الصورة والإعجاز الإلهي بشكل دقيق ورائع لا يخلو من إظهار رهبة الموقف والخشوع وبنفس الوقت المحسنات البديعية.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان