“تدور حول المعرفة الإنسانية مناقشات فلسفية حادة تحتل مركزاً رئيسياً في الفلسفة وخاصة الفلسفة الحديثة، فهي نقطة الانطلاق الفلسفي لإقامة فلسفة متماسكة عن الكون والعالم، فما لم تحدد مصادر الفكر البشري ومقاييسه وقيمه لا يمكن القيام بأية دراسة مهما كان لونها”.
نفتتح مقالنا هذا بما قاله الشهيد محمد باقر الصدر، الفيلسوف والمفكر الإسلامي، الذي اعتبر أن الإيمان بالمعرفة والثقة فيها كطريق للعلم الأساسي أو البنية الأولى كما أسماها الصدر، لأي كيان فكري يتوخى إقامة فلسفة أو تصور عن الكون والإنسان وخالقهما. إن كل من عاش وعاصر السيد الشهيد محمد باقر الصدر يستطيع أن يدرك بسهولة أن التضحية حالة متجذرة في أعماق روحه الزكية بعد أن روى شجرة الإسلام بدمه الطاهر وسجل أبهى صور التضحية والفداء من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض. وأذكر هنا بعض من بيانه الثالث حيث يقول: “وإني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء، حين دافعت عن الرسالة التي توحدهم جميعاً وعن العقيدة التي تضمهم جميعاً، ولم أعش بفكري وكياني إلا للإسلام طريق الخلاص وهدف الجميع فأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي، أنا معكما بقدر ما أنتم مع الإسلام”.
إستراتيجية وفكر الشهيد الصدر
الشهيد محمد باقر الصدر، بحر، مهما غرف منه الإنسان، لن ينتهي، وهنا أستذكر الآية الكريمة، “ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله، أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون”، ونستحضر السؤال من مضمون الآية الكريمة، لماذا الشهيد حي؟
ببساطة، لأن الشهيد صاحب مشروع، فالشهيد الصدر غادرنا جسديا، لكن قبل أن يغادر ترك لنا موروث وكنز تراثي عريق وقيّم، فالشهيد السيد محمد باقر الصدر قدم لنا فكر وكانت تضحيته متجسده بفكره النيّر، فهو حي في مرحلتين، الأولى: الإستشهاد، والثانية: فكره وما تركه للبشرية.
الشهيد الصدر، شخصية علمية حادة الذهن متطلعة متشبعة بفكر الغرب، فآية الله السيد محمد باقر الصدر، هو من العلماء الذين يحتاج إليهم عالمنا الإسلامي في القوت الراهن، فالعالم الإسلامي يحتاج إلى عالِمٍ متأصّلٍ في الإسلام، متمكناً إلى حد الإجتهاد، والقدرة على الإستنباط، وأن يكون من جهة أخرى، واعيا لهموم عصره، ومدركا لها، محيطا بها، ويمتلك الشجاعة الكافية في تشخيصها ووضع اليد عليها، والقدرة على أن يتحدث فيها بلغة مجتمعة، هكذا وصفه الدكتور “علي شريعتي” رحمه الله.
الشهيد الصدر، ترك مخزونا فكريا عليما عالي القيمة، قل نظيره من بين أقران جيله إلى يومنا هذا، لقد تميز في كل ما طرحه من نظريات وأفكار، فمنذ صغره، كان موضع إعجاب الأساتذة والطلاب لشدة ذكائه، فلا عجب أن أول ما بدأ به من دراسة كان “دراسة المنطق”، تخيلوا في سن الحادية عشر من عمره فقط، وبسبب هذا الذكاء الحاد استطاع نيل إجازة الإجتهاد، حيث ترك مؤلفات عديدة، فإشكالاته على المنطق الأرسطي، وتعليقاته التجديدية على الآراء القديمة في علم أصول الفقه لا تزال إلى الآن تدرس في المعاهد الدينية، ما يميزه أنه لم ينحصر في دائرته الدينية، بل امتد فكره إلى الغرب وقام بمناقشة الفلسفة الغربية، وقدم الإسلام النموذج الإنساني الأوحد لتخليص الإنسان من الظلم، لقد ألف العديد من الكتب البحثية والفقهية ومن أهمها:
كتاب إقتصادنا، فلسفتنا، البنك اللاربوي في الإسلام، الأسس المنطقية للإستقراء، دروس في علم الأصول، المعالم الجديدة للأصول، بحث في المرجعية الصالحة والمرجعية الموضوعية، الإسلام يقود الحياة، وغيرها من المؤلفات.
بين الفلسفة والإقتصاد
في كتابه “اقتصادنا” يعد الصدر اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام الخطوة الأولى على طريق بناء مجتمع يتبناها ويطبقها حتى تستأنف الأمة مسيرتها الحضارية. وقد بدأ كتابه بعرض للاقتصادين الاشتراكي والرأسمالي، وبعدما أتم عملية التفكيك المعرفي لكليهما مؤكدا أن كلا منهما لا يصلح كنظام اقتصادي للبشرية بحكم انطلاقه من منطلق خاطئ، ثم عرض الاقتصاد الإسلامي بخطوطه العامة، وعملية اكتشاف المذهب، ثم طبق ذلك على أحكام الاقتصاد الإسلامي من خلال مسألتي الإنتاج والتوزيع. لقد أصبح كتابه مرجعاً للدراسات الاقتصادية في الجامعات، وترجم إلى لغات عديدة، وعدّ أفضل كتاب يحتوي للمقارنة بين أنظمة الإسلام، وأثبت بالبراهين الدامغة تفوق الإسلام على جميع الأنظمة في وضع الحلول الناجعة للمشاكل الاقتصادية. ففي فترة الأربعينات والخمسينات كانت خاصة بالأفكار الشيوعية والماركسية واليسار أراد المؤمنون بها إثباتها آنذاك، وكانت منتشرة بشكل كبير، فالشهيد محمد باقر الصدر ولتميزه بتفكيرٍ عميق استوعب تلك الحالات لأنه وفي تلك الفترة كان هناك خلو للفكر الإسلامي والذي كان يقتصر على كتب الفقه والكتب الحوزوية والكتب الخاصة في المؤسسات الدينية، وبشكل أدق كان هناك خلوّاً للفكر الشيعي الإسلامي من الكتب والمراجع الفكرية، فكان الشهيد الصدر أول من اقتحم المجال الفكري، لما وجده من فراغ وإقحام أفكار هجينة إلى حد ما على المجتمع ونقصد به هنا “المجتمع الإسلامي”، فبعد الشيخ مهدي شمس الدين في لبنان، يُعتبَر الشهيد محمد باقر الصدر أول من اقتحم هذا العالم بعد شعورٍ ما قد يكون غضب أو غيرة أو حمية على الطرائق العلمية للإسلام، ولكن في المقلب الآخر لم تلقَ أفكاره تحيبا آنذاك، قد يكون لأنه حاول تغيير الصوة النمطية، فلاقى هجوما حتى من المؤسسات الدينية نفسها، لتفكيره المتميز في الكتابة ولجرأته في الطرح، حتى أن بعض الشيوعيين آنذاك كانوا يقولون إن ما نقدّمه في بضعة شهور، يأتي الشهيد محمد باقر الصدر ويهدمه إن كان في محاضرة أو في مقال في تلك المرحلة، فطرحه لتلك الأفكار في مرحلة كانت المنطقة مستعمرة وتحمها ملكيات وأن يخرج صاحب أفكار يضحد كل ما جاءوا به، لذلك لم تكن تلك الحقبة فترة سهلة أن تثبت وجهة نظرك ونظرياتك في ظل وجود كم كبير من المخالفين والمعارضين لك، فالفترة التي برز فيها الشهيد محمد باقر الصدر حتى على المستوى الديني كانت تتبع للصورة النمطية فكريا وأدبيا ودينيا، باختصار أراد الشهيد الصدر الخروج عن العباءة التقليدية في كل المجالات، فكان الرجل غير التقليدي في أفكاره وطروحاته ودراسته واستيعابه للواقع السياسي والديني، فما كان منه إلا أن لبى حاجة تلك المرحلة من خلال مؤلفاته وأبرزها كتاب “فلسفتنا على وجه الخصوص”، الكتاب الذي لا يضاهيه كتاب إلى اليوم.
أما كتاب “فلسفتنا”، إن هذا الكتاب دراسة دقيقة وموضوعية للأسس التي تقوم عليها الفلسفة الماركسية ودحضها علمياً وبشكلٍ رصين. يقول الشهيد “فلسفتنا هو مجموعة مفاهيمنا الأساسية عن العالم وطريقة التفكير فيه ولهذا كان الكتاب”. ان الشهيد الصدر بطرحه للإسلام منهجاً شاملاً لحركة التحرر والنهوض والتنمية على مستوى العالم الإسلامي يكون قد وضع مشكلة التنمية في إطارها الصحيح وواجه أزمة التخبط التي تعاني منها تجارب التنمية الفاشلة في العالم العربي والإسلامي، ومن جهة أخرى يكون قد أرسى أساساً نظرياً وتطبيقياً لملء الفراغ الذي يشكون منه الخطاب الإسلامي المعاصر تجاه أحد أهم أسئلة العصر وتحدياته.
فيلسوف الزمان
قال تعالى في كتابه العزيز: “والذين جاهدوا فينا، لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين”.
الشهيد محمد باقر الصدر عملاق الفلاسفة والمفكرين، الذين برزوا في سماء الفكر الإنساني، الإنسان الذي استحق وبجدارة كبيرة أن يكون رمزا على المستويين الإنساني والإسلامي، وكأنه النور الذي انبثق من رحم الظلام ليوقظ الحس الإنساني الذي طال سباته، فعلى مستوى الأعمال الفكرية يمكن أن نذكر ما دونه الشهيد الصدر في دفتره الصغير الذي تناول فيه أطروحة المرجعية الموضوعية، أو ما كتبه من شرح أسس “الدولة الإسلامية”، فلقد لقد كانت حياة الشهيد الصدر زاخرة بالأحداث والمواقف والأعمال والنشاطات السياسية والفكرية، لقد كان الشهيد الصدر يؤكد في كتاباته وخطاباته على أنَّ الإنسان لا يمكنه إيجاد نظام يحقق السعادة للإنسان والمجتمع، بل لا بد من اللجوء إلى النظام الإسلامي وقراءتها قراءة واعية؛ ليمكن من خلاله أنْ نضع السُّبُل الكفيلة بالارتقاء نحو الصلاح الاجتماعي، فيقول معقبًا على أسباب الفشل في الأنظمة الوضعية: “إنَّ النظام الذي ينشؤه الإنسان الاجتماعي، ويؤمن بصلاحه وكفاءته، لا يمكن أنْ يكون جديرًا بتربية هذا الإنسان، وتصعيده في المجال الإنساني إلى آفاق أرحب”. إن من سمات شخصية المرجع الشهيد (رحمه الله) تلك العاطفة الحارة، والأحاسيس الصادقة، والشعور الأبوي تجاه كل أبناء الأمة، تراه يلتقيك بوجه طليق، تعلوه ابتسامة تشعرك بحب كبير وحنان عظيم، حتى يحسب الزائر أن السيد لا يحب غيره، وإن تحدث معه أصغى إليه باهتمام كبير ورعاية كاملة، وكان سماحته يقول: إذا كنا لا نسع الناس بأموالنا فلماذا لا نسعهم بأخلاقنا وقلوبنا وعواطفنا؟
كان السيد الصدر يعتقد بأهمية وضرورة إقامة حكومة إسلامية رشيدة، تحكم بما أنزل الله عز وجل، تعكس كل جوانب الإسلام المشرقة، وتبرهن على قدرته في بناء الحياة الإنسانية النموذجية، بل وتثبت أن الإسلام هو النظام الوحيد القادر على ذلك، وكان يعتقد أن قيادة العمل الإسلامي يجب أن تكون للمرجعية الواعية العارفة بالظروف والأوضاع المتحسسة لهموم الأمة وآمالها وطموحاتها، والإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من مفاهيم، وقال الشهيد محمد باقر الصدر مقولته التي لخصت وطنيته وحبه لبلده وأمته والإنسان، “ما من إنسان تكلم عن الإنسانية، إلا وكانت كربلاء في ضميره”.
إهتمام عالمي بالشهيد “محمد باقر الصدر”
السيد محمد باقر الصدر قاد ثورة لتغيير الحكم الشمولي إلا أنه إصطدم بالنظام السياسي الناشئ، وهو العربي الوحيد من بين عظماء العالم تم تكريمه ووضع تمثال له في متحف موسكو وجامعتها، تمثال يجسد شخصية السيد الشهيد محمد باقر الصدر المفكر الإسلامي وصاحب الفتوحات الفكرية الكبرى في العراق والبلاد العربية والمسلمة والذي أخذ حيزا من الإهتمام العالمي بطروحاته العظيمة، هذا يمثل بعضا من إستحقاق السيد الشهيد الصدر وهو يستحق أكثر من ذلك، فقد قدم عطاءا فكريا غير مسبوق، وواجه نظاما شموليا جبار، وخاطب المجتمع المسلم دون أن يميز بين أتباع الطوائف وأنهى حياته شهيدا، وهي المنزلة الأرفع التي لا يستطيع نيلها أي أحد بل هي من نصيب عباد الله المخلصين.
وكما بدأت مقالي بذكر نبذة عما قاله الشهيد السعيد بإذن الله، محمد باقر الصدر، “إن من كان مع الله كان الله معه، وإن العلم والإخلاص في العمل رأس مال لا يدانيه أي رأس مال آخر”، فما أكبر فخرنا وأعظمه أن نحظى بفيلسوفٍ قلّ نظيره، الإنسان المؤمن والورع والمسلم، الذي تحدى نظامه وكان على حساب حياته، في سبيل إعلاء الإنسان ورفعته ومكانته، رفع الإسلام وتحدث به كروح واحدة ويد واحدة وقلبٍ واحد، كان أباً لكل المذاهب، يمقت الطائفية والكراهية، ويحترم الآخر، كم نحتاج إلى امثاله اليوم، بعد كل ما يحدث من عدم تقبل الآخر، ولننظر على الغرب كيف أخذ علومه واعتبرها مرجعيات تدرس في جامعاته وترجمها إلى لغاته، لأنهم طلاب علم لا لاهيين عن علمهم بالأمور العبثية من طائفية وحروب مقيتة، أخي المسلم وأخي العربي، تعلم من مدرسة هذا الشهيد، إقرأ عما كتب، وخذ العلم واستفد منه، فالشهيد محمد باقر الصدر نسخة لن تتكرر، فما أحوجنا إليه اليوم.
“يا شعبي العزيز، أيها الشعب العظيم، إني أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك، وحياتك الجهادية، بكل فئاتك وطوائفك، بعربك وأكرادك، بسنّتك وشيعتك، لأن المحنة لا تخص مذهبا دون آخر، ولا قومية دون أخرى”. الشهيد السعيد محمد باقر الصدر.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب وإعلامي كويتي