في الروايات الموجودة في كتب الفرق الإسلامية التي لا تخضع كتاباتها للتوثيق، والإسناد المتصل، وإن جاءت هذه الكتب على ذكر رواة، من الضروي والمهم أن يكونوا معروفين، وأن تكون الرواية متواترة وموافقة للقرآن الكريم.
هذا الأمر توقفت عنده كثيراً وسأواصل به، لأن هذا العلم أمانة ويجب نقل الأمانة والروايات بدقة، لأن أي كتابات خالية من هذه الشروط فهي تفتقر لأن تصنف في خانة الكتب الإسلامية، ولا يؤخَذ بها، وتكون خارج إطار قواعد أهل الحديث، والرواية والدراية، وبالطبع مع شديد الاحترام للفرق الإسلامية على اختلافها، لكن لا يعني لتبيان الاختلاف بفرض قواعد مختلفة عما وضع سابقاً وسار عليه كل العلماء، لنجد مئات الروايات التي رواتها مجهولين وبالتالي، لا يطمئن أي قارئ مطلع على شروط علم الحديث والرواية والدراية لأي من تلك الروايات، فهذا تشريع إسلامي وعقيدة ودين إن لم نطبق تعاليمه وقواعده، فكيف نكون مسلمين؟
بالتالي، ومن المفروض على كل مؤمن أن يتورّع ولا ينقل رواية خالية السند، أو تكون غير خاضعة لعلم الجرح والتعديل الموضوع من قبل الإمام الحافظ، إمام الجرح والتعديل، شيخ المحدثين أحد كبار علماء الحديث “يحيى بن معين 774 – 847”.
وفيما يتعلق بعلم الجرح والتعديل، فهو يعني أحوال الرجال، وهذا أمر كل مؤمن ومطلع على شروط علم الحديث والرواية والدراية يعلمه، فإذا كان رجال السند كلهم ثقات ومعروفين بالعدالة، وممن كانوا على أعلى درجات الضبط أو أخف درجات الضبط، فمثلاً الحديث الذي كان رجاله من أوله إلى آخره بهذه الصفات، فالحديث صحيح، أو حسن بأقل أحواله، لكن في حال كان فيه راوٍ واحد ضعيف، فهذا الحديث يعد ضعيفاً، والضعف درجات، قد تصل إلى خمسين درجة، بالتالي، الضعف بمجمله، يقسم إلى نوعين:
إما أن يكون الرواي متهماً بالعدالة أو متهماً بالحفظ، والأخير شأنه أهون كما أنه على أنواع ودرجات وحديثه قد يقبل به إلا إذا ساء حفظه، هذا الأمر مختلف، فقد يقوى بطرق أخرى، والمتهم بالعدالة كأن يقال دجال أو وضّاع أو كذاب أو مبتدع يدعو إلى بدعته وما شابه ذلك، هذا حديث مردود لا يقوّى ولو بألف طريقة إذا كان مدار الحديث على هذا الراوي، وأما إذا كان هناك أكثر من راوٍ ضعيف، هذا يزيد من ضعف الحديث.
من هنا، إن علم الجرح والتعديل كما وصفه أعداء الإسلام قبل المسلمين، إنه من أجلّ وأعجب وأغرب العلوم التي ألّفت في التاريخ، فعشرات الآلاف من الرواة تُتبّعت أحوالهم، فعرفت شيوخهم وعرفت تلامذتهم ومروياتهم، بل حتى عرفت البقاع التي رووا فيها الأحاديث، فأحياناً يكون هناك راوٍ يُعرف بالتدليس وهو ثقة لكنه مدلس، فعندما يقول عن فلان، والراوي المدلس إذا عنعن، لا يُقبل حديثه حتى وإن كان ثقة، وعرفوا أنه رواه مباشرةً عن شيخه أو أسقط أحداً بينهما، يقول لأن هذا الراوي على سبيل المثال، حدّث عن شيخه هذه الأحاديث في باب الحج، وهذا الشيخ لم يروِ أحاديث الحج إلا في ذلك البلد، ولم يرويها في هذا البلد، وأصلاً هذا الراوي لم يلتقِ بشيخه في ذلك البلد، وهذا ما يسمى علم العلل، فإن كان الحديث رواته كلهم ثقات، لكن مع وجود علة قادحة تضعفه، بالتالي يكون الحديث ضعيف، فتخيلوا إلى أي درجة توخي الدقة في النقل، ونجد هذا الأمر مشروح بإسهاب في مؤلفات الإمام البخاري والترمذي والدار قطني وغيرهم.
وعلم الجرح والتعديل هو أن يُعرف كل رواي حاله فيما إذا كان معلوماً أو كان مجهولاً، وفيما إذا كان ثقة أو كان ضعيفاً أو كان مستور الحال، أو كان وضّاعاً أو أو إلخ، يُعلم هو ويُعلم شيوخه ويُعلم متى التقى بشيوخه، وبتلاميذه، وكل مروياته، وفيما إذا كان يحدّث من حفظه أو من كتاب وغير ذلك، وإذا كان ثقة بنفسه لكنه يروي عن الضعفاء، وإذا كان لا يروي عن الضعفاء، فلتتمعنوا إلى أي درجة علم الجرح والتعديل هو علم جليل القدر وموثوق، والذي يدخل فيه ويخوض غماره يجد العجب العجاب، لذلك نحن مطمئنون على الدين الإسلامي الحنيف نعرف صحيحه، ونعرف ضعيفه ونعرف ما اختلف منه.
وفيما يتعلق بالرواية عن الفرق الإسلامية الأخرى، إن كتب الفرق الأخرى عندما نقرأها، يجب النظر إلى عدة أمور مهمة، منها أن ننظر إذا كان السند الذي فيها رجاله من أهل التزكية عند أهل الحديث، لأن أحياناً بعض الكتب أو بعض المرويات تشترك مع أهل الحديث بجزءٍ من السند، كحديث مروي عن إمامٍ من أحد الأئمة، عن فلان، عن فلان، ثم يأتي برجال متفق عليهم بين الفرقتين أو أكثر، مثلاً يصل إلى يحيى بن سعيد، قال حدثني التيمي، قال حدثني عقبة بن مالك الليثي، قال حدثني أحد الصحابة، هنا ننظر إلى من تم ذكرهم أنهم كلهم ثقات، ثم ننظر من بينهم من كان له إسناد من أهل الحديث يروي بحديث يتصل بهذا السند ثم ينتهي به هذه الحديث كما ورد، فإذا كان موجوداً، حينها نقول إن هذا الحديث صحيح باعتبار السند المروي عند أهل الحديث.
وعليه إن الحديث الصحيح لغة هو ضد السقيم، واصطلاحاً ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة، أما العدالة فهي ﺷﺮط ﻟﻘﺒﻮل اﻟﺮواﻳﺔ وﺻﺤﺘﻬﺎ ﻋﻨﺪ ﺟﻤﺎﻫﻴﺮ أﻫﻞ اﻟﻌﻠﻢ ﺑﺎﻟﺤﺪﻳﺚ واﻟﻔﻘﻪ واﻷﺻﻮل.
وبالنظر إلى فرقة أخرى غير أهل الحديث، وباعترافهم هم، لم يعتنوا كثيراً بالأسانيد وخاصة في المرويات التي تؤيد ما توجهوا إليه من عقائد ومرويات وغير ذلك، حتى وإن كان السند ضعيفاً، والرواي في نظرهم أيضاً كان ضعيفاً، فإنه يدرج في الكتب الكبيرة المعتمدة لديهم وتجدها موضوعة بتزكية من أهل الاختصاص وبحسب شروطهم للرواية، على عكس شروط أهل الحديث التي تقول إن كل ما لا يوافق كتبهم ومروياتهم فهو لا يصح الأخذ به، ولا يجوز الاحتجاج به ولا يصح الاعتماد عليه، لكن من الممكن الرواية استئناساً وبهذه الحالة ورغم أنه غير مثبت لا بكتاب ولا بسنّة، نجده مروياً لكن في هذه الحالة لا نكذبه ولا نصدقه، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، ويقول أيضاً: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم)، مع الفارق طبعاً، لكن أهل الحديث عندما يوجد مرويات تخالف العقيدة فردّها واجب.
بالتالي، من أبواب الجرح والتعديل، لدينا المبتدع الذي لم يعرف عنه كذب، ومن المعروف أن هناك مبتدعة، ففي صحيح البخاري هناك رجال هم من الخوارج، ومن المعروف أيضاً أن الخوارج يبتعدون عن الكذب، فالكبائر عند الخوارج من يقول بها يكذبون صاحبها، ويكفرونه، وأحياناً نجد راوياً من فرقة إسلامية أخرى نعلم أنه لم يعرف عنه الكذب، بالتالي المبتدئ ليس دائماً يرد حديثه، لكن المبتدئ الذي يروي شيئاً يوافق بدعته أو يدعو إلى بدعته أو يعززها فهذا يرد حديثه، مع الإشارة إلى أن الإمام البخاري لم يرويها في الأصول وإنما في المتابعات والشواهد وغير ذلك، واستشهدت به لأن صحيح البخاري هو أصح الكتب المصنفة على الإطلاق يليه صحيح مسلم.
لكن هناك بعض أهل البدع، لكن ممن لم يدعوا إلى بدعته ولم يعثر عنه الكذب، ويكون هذا غالباً في المتابعات والشواهد، فمثلاً الأدعية الواردة عن بعض أهل البيت عليهم السلام أو بعض الصحابة والصالحين، التي وجدت بغير كتب مدرسة أهل الحديث، ينظر إلى سندها شأنها شأن ما ورد لدى أهل الحديث والأثر، ويجب تتبع الرواة، فإذا كان من بين الرواة “كذاب” فالحديث لا تجوز روايته لأنه يعد مكذوباً أو موضوعاً، وإذا كان الحديث ضعيف، يتم التسامح برواته في فضائل الأعمال وفي المناقب وبعض الأبواب، شرط أن يكون ضعفه هيّناً بيّناً بحفظ الراوي وليس بعدالته، فإذا كان أحد الرواة مطعوناً بالعدالة فلا يجوز الحديث، أما بالنسبة لمن يردد الكثير من الأدعية المنسوبة لأهل البيت عليهم السلام نجد فيها الكثير من المناقب والفضائل، ومن خلال الرواة وبتتبع السند نجد أن الفرق التي تفعل ذلك هي من قدحت في هؤلاء الرواة رغم ذلك تنقل عنهم، فلو قيّم إرث بعض الفرق الإسلامية بما يتعلق بالمرويات طبقاً للشروط، سيسقط الكثير منها، لأن أغلبه مروي برواية الضعفاء والمطعونين بشهادتهم هم.
من هنا، إن التهاون في علم الأسانيد والجرح والتعديل وعلم الرجال وعلم الرواية والدراية سيفتح الآفاق لأعداء الإسلام بالعبث فيه، بالتالي الاهتمام به يقطع الطريق عليهم لاختراقنا وبخاصة المستشرقين، فقد قيل إن نابليون بونابرت عندما قدم مصر غازياً، سار معه جحافل من المستشرقين الذين سبقوه، والجميع يعلم محاولاته سرقة المخطوطات الموجودة في الأزهر الشريف، لكن علماء مصر والأزهر تصدوا لهذه الحملة، وإلى الآن يتصدون لمحاولات الغرب القديم والحديث، هنا أتحدث عن العلماء الأصلاء، فالعلوم الإسلامية تُحفظ بالأسانيد والرواية والدراية، ومن غيرتنا على آل بيت النبي عليهم السلام والصحابة الكرام، ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم، لا نقبل أن تُروى رواية واحدة إلا متوافقة الشروط وأنا شخصياً متعصب جداً لهذا الأمر، بأن يروى عن الأنبياء والرسل والصحابة إلا بإسناد صحيح متصل السند متواتراً موافقاً لكتاب الله بشروط “أهل العلم”، فلا مشكلة لي مع الفرق الإسلامية الأخرى لكن المشكلة هي أن يتم وضع قانون يضبط كل هذا الهرج الحاصل في هذا السياق تحت ذرائع البحث العلمي أو ما شابه ذلك، لأن التساهل الكبير الذي رأيت جعلني أعود إلى ما أكرره دائماً ولن أتوقف حتى يُعالج هذا الأمر.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.