لقد جعل الله تبارك وتعالى القرآن الكر يم شفاء للصدور وجلاء للأذهان به ترتقي النفوس و تنشرح الصدور، لا شيء أفصح من بلاغته ولا ألذ من تلاوته، فبفضله ارتقت اللغة العربية الفصحى وزادت مكانتها من بين جميع اللغات وأصبحت رمز البلاغة.
وليس هناك أجمل من الكتابة عما يشتمله القرآن الكريم، في شهر الرحمة، نتناول به كلام الله عز وجل مقصداً وحكمة وعبرة وموعظة تتهذب فيها النفوس وترتقي إلى حالة من الروحانية التي لا يمكن لإنسان أن يعيشها إلا في حضرة القرآن الكريم، فقد سحر ذو العقول بإعجازه من حيث فصاحته وبلاغته ونظمه وتراكيبه وأساليبه، لذا عكفوا على تدبر معانيه ومعرفة مقاصده فهو كنز لا يفنى من روائع الفنون البلاغية (المعاني والبيان والبديع)، خاصة هذا الأخير الذي احتل مكاناً مرموقاً في العصور الأولى لما يضفيه من جمال الألفاظ والمعاني، كذلك ومما لا شك فيه أن تدبر القراّن من أعظم القربات إلى الله عز وجل، ومن أثمن ما تنفق فيه الأوقات، وتفنى فيه الأعمار، ومن إعجاز القراّن العظيم أنه لا تفنى عجائبه فكلما قرأته لاحت لك معانٍ جديدة، وكأنك تقرأ لأول مرة! ولا عجب أن يكون كلام الله عز وجل كذلك.
قال ابن باز (1912 – 1999): (عليك بتدبر القرآن حتى تعرف المعنى، تدبره من أوله إلى آخره، واقرأه بتدبر وتعقل، ورغبة في العمل الفائدة، لا تقرأه بقلب غافل، إقرأه بقلب حاضر، واسأل أهل العلم عما أشكل عليك، مع أن القرآن أكثره بحمد الله واضح للعامة والخاصة ممن يعرف اللغة العربية)، وكما نعلم أن سورة طه تضمنت الكثير من المقاصد والجماليات اللغوية والبيانية فضلاً عن الإعجاز، وكما أشرنا في أجزاء سابقة أن سورة طه غرضها تركيز أصول الدين والتوحيد، والنبوة، والبعث والنشور، إضافة إلى القصص والحكم، وقد أضاف القرآن الكريم إضافة لغوية معجزة من النحو والمعاني والبلاغة والبديع، لنعرف كيف كان القرآن معجزاً، ولنفهم بعض القصص التي نتناقلها عن تأثير بلاغة القرآن على العرب، مثل؛ قصة إسلام الخليفة عمر بن الخطاب بمجرد سماعه سورة “طه”، وشهادة الوليد بن المغيرة المخزومي على بيان القرآن.
ولمعرفة الإعجاز بشكله الصحيح والعلمي، نجد أن العديد من علماء المسلمين قد ناقشوا الإعجاز اللغوي، ومن أهمهم عبد القاهر الجرجاني (400 هـ – 471 هـ) في كتاب (دلائل الإعجاز)، ومحمد بن الطيب الباقلاني (338 هـ – 403) في كتاب (إعجاز القرآن)، وهي كتب تحتاج معرفة كافية بعلم النحو، لأنّها تبني عليه، مع إعادة التذكير بضرورة دراسة الشعر الجاهلي دراسة متأنية دقيقة، وفهم بلاغته وبيانه وصوره ومجازه وتراكيبه وأوزانه، لفهم أين كانت العرب، وماذا أضاف القرآن للغتهم، وكيف أعجزهم، ففي القرآن يتأسس المسلم ببوصلة إيمانية لا يحيد بها طريقه.
من هنا، اعتمدت سورة طه على الأساليب الإنشائية الطلبية وغير الطلبية على حد سواء، وكان ورود الأساليب الطلبية أكثر من الأساليب غير الطلبية، إلا أن نظم السورة الكريمة كشف لنا التآلف والتناسق بينهما بشكل متناوب، والذي تم من خلاله بناء المعنى المتكامل، الذي تأسس من أجله الخطاب المتميز بنوعية التراكيب التي تخص كل أسلوب على حدة، كذلك الجمل الأمرية ليست كالاستفهامية فهذه الخصوصية المفردة لكل أسلوب مكنت من ثراء دلالي ينشأ حينما ترتبط الأساليب بعضها مع بعض داخل السورة لتحقق المقصود الأعظم لها.
واستكمالاً لتفسير سورة طه، يقول الحق تبارك وتعالى: (وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى فألقي السحرة سجّدا قالوا آمنا برب هارون وموسى).
فلا يمكن التصديق أبداً بأفعال السحرة أو ما يزعمون به، ويكفي أن يقول الله عز وجل: (إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى)، وما دمنا مؤمنين بالله ومصدقين بالقرآن فإن هذا الحكم يصدق على كل من يدعي السحر ويصدق في كل من يتعرض للسحر، ولا يعصم من ذلك إلا الإيمان بالله والتسليم بقدرته والتفويض لعظمته عز وجل، ولذلك فإننا نفيد من قصة موسى عليه السلام أن هذا الكون لا تتصرف فيه إلا قدرة الله وحده، الله وحده يفعل ما يشاء وهو الذي يصيب من يشاء بما شاءت قدرته، أما أن يُقال إن بعض الناس يحتكر مسألة السحر ويحاول أن يصيب الآخرين بما يشاء لهم من كيد وسحر، فهذا كله لا أصل له، ولا حقيقة له، ولا ينبغي أن نكرره، فالسحر هو وهم من الأوهام، وصفه القرآن الكريم وصفاً دقيقاً (فألقوا حبالهم وعصيهم)، وحتى إن نبي الله موسى عليه السلام يخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى، أي خيّل إليه ذلك من ألاعيبهم، مما جاؤوا به من عصيّ وحبال مضاف إليها شيء من الزئبق كما يروى عن هذه المسألة، من خلال تلاعب الزئبق بالعين البشرية ليخيّل وكأن هناك ثعابين تتحرك، (وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا)، هنا تعبير القرآن أنه لن يصعب على ما في يمين موسى من المعجزة أن يبطل هذه الألاعيب السحرية التي هي خيال بخيال كاذب.
وهكذا ينهزم السحر والسحرة أمام إرادة الله تبارك وتعالى، وأمام قدرة الإيمان وعظمته، وهذا ما ينبغي أن يتسلح به كل مسلم، نحن حين نفسر هذه الآيات، لا نروي قصة نتسلى بها، ولكن نحاول أن ننزل النص القرآني على الواقع الذي نعيشه، أي كيف نعيش حياة الإيمان ونقرأ هذا في القرآن، وقد أرسل الله تعالى موسى عليه السلام بهذه المعجزة ليبطل السحر والسحرة، قال تعالى: (فألقي السحرة سجّدا قالوا آمنا برب هارون وموسى) لأنهم آمنوا بأن ما شاهدوه من عصا تتحول إلى تنين هائل يبتلع كل من حوله من السحرة وألاعيبهم، فلا يمكن لهذا أن يكون سحراً أيضاً بل هو فعل الله تبارك وتعالى ومعجزة نبيه موسى عليه السلام، فسجد السحرة و(قالوا آمنا برب هارون وموسى) أي إنهم كفروا بفرعون بعد أن اكتشفوا أنهم كانوا يعيشون في وهم ومستمرون فيه، لكن بعد الذي شاهدوه آن الأوان لكي يعودوا إلى الإيمان بالله.
هكذا كانت قصة هؤلاء السحرة قدوة لنا جميعاً، إن كنا نؤمن بالله عز وجل، فيجب ألا نثق بالسحر أو بالسحرة، ويجب ألا نلجأ إلى من يزعمون أنهم يسحرون الناس، أو أنهم يفعلون بهم أفعالاً معينة، فكل هذا كذب وغش وخداع، لا ينبغي أن نستسلم له، بل يجب أن نكون أقوياء بالإيمان بالله، والله تبارك وتعالى، يصوننا ويحفظنا من خداع الماكرين والكائدين وأدعياء السحر، واليوم هناك نماذج كثيرة تشبه سحرة فرعون يخدعون الناس بآلاف الطرق، مستغلين طيبة البعض وقلة حيلة البعض، عبر حيل دجالة توصل بهم إلى طريق الضياع، فلنتحصن بالإيمان وبالقرآن الكريم، ونسير على هدي رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وألا نستمع إلا لصوت الحق الذي في داخلنا ليقينا من هؤلاء، فما من قدرة على شيء إلا قدرة الله عز وجل، فهو القادر على كل شيء وهو السميع المجيب.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.