ما أحوجنا في شهر القرآن الكريم إلى تدبر القيم القرآنية والتذكير بها والتفكير في كيفية تفعيلها في حياتنا اليومية وتنميتها والحفاظ عليها، ولا عجب أن القرآن الكريم نزل في شهر رمضان المبارك، قال تبارك وتعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان).
من يتدبر الآيات القرآنية في شهر رمضان المبارك، يجد أن ما يميز الشهر الكريم هو القرآن، لمقاصد كثيرة منها ترسيخ القيم الهادية والموجهة للناس جميعاً يكملها الصيام، فالغاية الأساسية من القرآن الكريم هي تقويم السلوك وفقاً للمنظومة القيمية التي ترتكز عليها جميع تعاليم الإسلام والتي تنطلق من التصور الإسلامي للإنسان والكون والحياة والخالق لتحدد وظيفة الإنسان في الحياة الدنيا وارتباط هذه الوظيفة بمصيره في الحياة الخالدة.
وهذا ليس كلاماً اعتباطياً ولا حتى تنظيراً، بل هو واجب على كل مسلم ومسلمة، ونحن طالبون بأن نتعبد الله في رمضان بالحياة مع القرآن وأن نعيش من أجل القرآن، والحياة مع القرآن لا تقتصر على التلاوة مع أهميتها، فلا بد من التدبر والحرص على تحقيق الأثر التربوي الناتج عن التلاوة والتدبر.
في الجزء السابق كنا قد تحدثنا عن الآثار المحمودة المتوقفة على تدبر آيات الذكر الحكيم، وهي: زيادة الإيمان وعظم الأجر والثواب، شفاء القلوب وحصول البركة والخيرات من الآثار العظيمة المترتبة على تدبر آيات الذكر الحكيم، وتوقف مدة ختم القرآن على مدى تدبره وفهمه، واليوم نستكمل هذا الجزء في ضمن إطار التدبر.
التفضيل بين القراءة من المصحف والقراءة عن ظهر قلب
إن التفضيل بين القراءة من المصحف والقراءة عن ظهر قلب، متعلق ومنوط بالتدبر، والخشوع، وقد فصل الإمام النووي القول في ذلك، حين قال: “ولو قيل: إنه يختلف باختلاف الأشخاص، فيختار القراءة في المصحف لمن استوى خشوعه وتدبره في حالتي القراءة في المصحف وعن ظهر قلب، ويختار القراءة عن ظهر قلب لمن يكمل بذلك خشوعه، ويزيد على خشوعه وتدبره لو قرأ من المصحف لكان هذا قولاً حسناً، والظاهر أن كلام السلف وفعلهم محمول على هذا التفصيل”، وقد جاء في فتح الباري لابن حجر: “ومن حيث المعنى أن القراءة في المصحف أسلم من الغلط لكن القراءة عن ظهر قلب أبعد من الرياء وأمكن للخشوع”، وهذا يعني أن هذا الأمر، يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فمن كمل خشوعه وتدبره بالقراءة عن ظهر قلب كان هذا أولى في حقه، وإن لم يجد القارئ ذلك الخشوع والتدبر بقراءته عن ظهر قلب أو وقع في اللحن أو الغلط أو النسيان فالأولى في حقه والأنفع أن يقرأ من المصحف، ويبقى العلم عند الله تبارك وتعالى.
الإمام النووي: (أبو زكريا، محيي الدين يحيى بن شرف النووي، 631 هـ – 676 هـ).
ابن حجر: (شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن أحمد الكناني العسقلاني، 773 هـ – 852 هـ).
تدبر آيات الذكر الحكيم طريق إلى استخراج كنوزه ودرره وأحكامه
إن تدبر آيات الذكر الحكيم وقراءتها بخشوع وتعقل ليجعل المسلم على بصيرة بما ترمي إليه هذه الآيات من معانٍ جليلة، وغايات نبيلة وأسرار لا تنتهي، كما تجعله يلتزم بأوامره، ويجتنب نواهيه، ويقف عند حدوده… ويظهر ذلك بصور شتى يصعب حصرها، من بينها:
أولاً، الدقة اللفظية في استعمال الكلمات القرآنية: وهذا فن عظيم يبرز لنا أوجه الحسن في القرآن الكريم، ويبين لنا أن هناك ميزاناً وضعت بمقتضاه كل لفظة من ألفاظ القرآن الكريم في موضعها اللائق بها بحيث لا يمكن أن تحل محلها لفظة أخرى سواها ولا يمكن أن يدرك تلك الحقيقة إلا أولوا الألباب من المتدبرين لكتاب الله تعالى والمتأملين لأسراره الجمة.
ثانياً، الامتثال للأمر ثمرة للتدبر: المتدبر لكتاب الله تعالى حين يقرأ القرآن الكريم يلتزم بأوامره ويخضع ويسلم ويذعن لحكم ربه في كل ما أمر به، ويجتنب ما نهى عنه فهذا هو الذي أضاء نور القرآن الكريم قلبه فاستجاب لأمر ربه تعالى.
ثالثاً، الوقوف على مضمون السورة وموضوعها: الخشوع والتدبر ينتج عنه الوقوف على الموضوع الرئيسي للسورة وما تتضمنه من توجيهات ربانية ولا يصل إلى هذا المقام العظيم إلا من فتح الله عليه وخشع قلبه وخشعت جوارحه عند تلاوة آيات الذكر الحكيم.
رابعاً، التناسب البليغ بين ما تضمنته الآية وما ختمت به: من يتدبر آيات الذكر الحكيم جيدًا يعلم يقينًا أن كل آيات القرآن ختمت بأسماء الله الحسنى التي تتناسب مع مضمون تلك الآيات.
خامساً، الوقوف على التناسب البليغ بين آيات القرآن الكريم: فإن من يتدبر آيات الذكر لحكيم بتمعن وخشوع يدرك من أول وهلة أنها نسيج واحد متماسك مترابط كالبنيان يشد يعضه بعضاً فلا يشعر بأي فجوة بين آياته وذلك لأنها من لدن حكيم خبير.
سادساً، الخوف من العقوبة والوعيد الوارد في الآيات: من يتدبر القرآن الكريم يتعظ من أحداث السابقين وهذا أمر طبيعي لكل من أراد الظفر بالآخرة.
بالتالي، إن القرآن الكريم يهدي الناس من خلال زرع القيم الهادفة في نفوسهم لبناء الإنسان أولاً ومن ثم مجتمعاتهم، قال تبارك وتعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)، فالغاية الأساسية من القرآن هي تقويم السلوك وفقاً للمنظومة القيمية التي ترتكز عليها جميع تعاليم الإسلام، كما أشرنا آنفاً، وهذا يقع على عاتق المربين من الأهل والمدرسة والمسجد وكل مكان، خاصة وأن دورهم يجب أن يكون معمقاً فيما يتعلق بالتركيز على البعد القيمي في القرآن الكريم، لا سيما القيم التي بدأت تضمر في حياتنا نتيجة التغيرات السريعة في مختلف جوانب الحياة والتي لو تواكبها تجديدات في الخطاب التربوي لاستيعاب أبعاد هذه التغيرات ومعالجتها وفقاً لقيمنا وأخلاقنا ومبادئنا التربوية.
لقد أكد القرآن الكريم أهمية دور الوالدين والأسرة في التربية على القيم القرآنية في أكثر من آية وبأكثر من أسلوب، وقدم لنا القرآن الكريم نماذج عملية للتربية الأسرية على القيم، كما نجد ذلك في قصة لقمان مع ابنه: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله)، طالب القرآن الكريم بوجود مؤسسات تؤدي وظيفة الحفاظ على القيم وتنميتها، كما في قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)، وما على المربين إلا أن يتعبدوا الله بالاضطلاع بدورهم العظيم في التربية على القيم، وأن يتذكروا أن حضارتنا العربية والإسلامية تميزت بارتكازها على منظومة القيم الإسلامية، وأن الإسلام انتشر في كثير من دول العالم بواسطة القيم والأخلاق التي جسدها المسلمون في حياتهم العملية، ولن تعود هذه الأمة إلى سالف مجدها وتستعيد دورها الحضاري الريادي إلا بالعودة إلى تصحيح مسارها القيمي وفقاً للقيم القرآنية.
عبد العزيز بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.