إن الحقائق التاريخية تؤكد على أن اللبنة الأساسية للتفسير الموضوعي كانت موجودة منذ أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حينما كان الصحابة يستفهمون من رسول الله عن مدلولات بعض الآيات، ومعانيها عندما تشتبه عليهم؛ بمعنى أنهم كانوا يلجؤون إلى تفسير آيات القرآن بالقرآن، وذلك جوهر علم التفسير الموضوعي.
ونشأ التفسير الموضوعي، بشكل فعلي حينما أدرج ضمن مساقات علم التفسير الذي كان يُدرس في الجامع الأزهر، وذلك في القرن الرابع العشر، وقد جمع علماء الفقه آيات القرآن الكريم وفق مواضيعها؛ فجمعوا الآيات التي تتحدث عن الصلاة، ، والطهارة وأركانها تحت باب خاص بها سُمي (باب الصلاة)؛ ليستدلوا بتلك الآيات على مُجمل أحكام الصلاة، وكذلك الحال مع غيرها من الفرائض، والعبادات، مثل: الزكاة والطهارة، ليتطور التفسير الموضوعي بعد ذلك، ويبحث في مدلولات لفظ معين، وبيان معانيه المختلفة بحسب السياق الذي جاء فيه، وممن ألَّف في هذا العلم: مُقاتل بن سليمان البلخيّ؛ إذ ألَف كتاباً أسماه (الأشباه والنظائر في القرآن)، وتبعه على ذلك النسق في التدوين إذ ألَّف كتاباً أسماه (التصاريف)، ثم جاء كتاب (المفردات في القرآن) للراغب الأصفهاني، ثم كتاب (نُزهة الأعين النواضر في علم الوجوه والنظائر) لابن الجوزي.
*مُقاتل بن سليمان البلخيّ: (أبو الحسن مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي البلخى من أعلام المفسرين، 702 م – 767 م).
*يحيى بن سلام: (يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة التيمي: مفسر، فقيه، عالم بالحديث واللغة، 124 هـ – 200 هـ).
*الراغب الأصفهاني: (أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، أديب من الحكماء العلماء، ت 1108 م).
*ابن الجوزي: (أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد القرشي التيمي البكري، فقيه، محدث ومؤرخ، 510 هـ – 597 هـ).
ثم تطوّر التفسير الموضوعي وتزامن مع التفسير العام لآيات كتاب الله تعالى، قد استمر هذا العلم بالتطور إلى حين ظهور مدرسة المنار في العصر الحديث، والتي بحثت في مدلولات سور وآيات القرآن الكريم ومقاصدها، مع إسقاطها على واقع الأمة، ومُستجداتها الراهنة، وقد أرجع الكثير نشأة التفسير الموضوعي بشكله الحديث إلى عالِمَين، هما: الإمام محمد عبده، وتلميذه رشيد رضا؛ فقد اتّبع محمد عبده منهج تفسير القرآن بالقرآن؛ باعتباره أفضل أسلوب للتفسير، إلّا أن رشيد رضا كانت دراسته للقرآن دراسة شمولية تُركز على موضوعات السور الرئيسية؛ إذ كان يضع لكل سورة مُلخصاً لجملة المواضيع والقضايا التي تتحدث عنها، كمسائل الوحي، والنبوّة، والعقائد، كما صنف سور القرآن وآياته؛ تبعاً للشواهد المُستفادة منها؛ فقد جمعَ الآيات التي تتحدث عن السنن الإلهية في الكون والحياة، وجعلها إحدى عشرة سنة، وكذلك الحال مع موضوع الإيمان ودرجاته؛ إذ جمع الآيات التي تتحدث عن الموضوع، ثمّ صنفها مُستخلصاً اثنين وثلاثين شاهداً، بحيث يرتبط كل شاهد منها بآية من كتاب الله، وقد برز أمين الخولي كباحث كان له الفضل في الدعوة الرسمية لانتهاج التفسير الموضوعي للقرآن من ناحية أدبية؛ إذ تمحورت فكرة الخولي حول تفسير آيات القرآن بدراسة مواضيعها، ثمّ البحث عن كل ما يتعلق بتلك المواضيع من الآيات؛ فالتفسير المُقتصر على آية معينة لا يُحقق الفهم الصحيح والكامل لآيات كتاب الله، كما ذهب إلى ذلك رائد هذه المدرسة، وقد انتهج الخولي في تفسيره منهجاً استقصائياً؛ بجمع الآيات التي تتحدث عن الموضوع الواحد، ثم النظر في زمن نزولها، ثم مناسبة نزولها للأحداث والوقائع المختلفة، ثم النظر في الآية وفق المُعطيات التي سبق ذكرها.
*محمد عبده: (واحد من أبرز شخصيات مصر في العصر الحديث، إمام التنوير، رجل إصلاح، داعية وإمام إسلامي، عرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرر من كافة أشكال الاستعمار الأجنبي 1849 – 1905).
*محمد رشيد رضا: (أحد أهم رواد النهضة الإسلامية منذ أواخر القرن التاسع عشر، وهو الداعية المنادي بالإصلاح، 1885 – 1935).
*أمين الخولي: (أديب مصري من كبار حُماة اللغة العربية، ومناضل شارك في ثورة 1919، 1895 – 1966).
عندما نتحدث عن التفسير الموضوعي، يعني نتحدث عن تفسير المصطلحات القرآنية، وكذلك تفسير الآيات من خلال البحث في مواضيعها، وتفسير السور باعتبار وحدتها في الهدف والموضوع، وما يميز التفسير الموضوعي أنه يفسر القرآن بالقرآن، وهو سبيل للتعمق في آيات الذكر الحكيم، واستنباط الأسرار، كذلك هو سبيل لمعرفة سنن الهداية للخلق الإلهية من خلال النظر في مواضيع الآيات، ويحقق زيادة إيمان النفس كالتحلي بمكارم الأخلاق وما شابه ذلك، ووسيلة للتعرف على البيان والبديع القرآني، كما أنه وسيلة لتصنيف الآيات وموضوعاتها وفق الأمور المشتركة التي تجمعها، بما يحقق الدراسة الموضوعية المتكاملة للقرآن الكريم، كما أنه يدفع لشُبهات التعارض بين مدلولات آيات كتاب الله؛ وذلك بالتوفيق بينها توفيقاً منهجياً سليماً، ويمكن الباحث من الاطلاع على الأحاديث النبوية الشريفة وأقوال الصحابة ذات الصلة بالآيات، وكذلك التعرف على منهج المفسرين قديماً في استنباط المواضيع من القرآن، مع تدوين المناقشات العلمية لعلماء الأمة، والاطلاع على ما كُتب من أبحاثٍ لغوية، أو فقهية بما يفيد الباحث في منهجيّته، ويُيسّر عليه الوصول إلى هدفه دون عراقيل، أو صعوبات، كما يمكّن التفسير الموضوعي الباحث من الإحاطة الكاملة بمواضيع كتاب الله، وبما يجعله قادراً على توضيح العلل، والأسباب وراء الأحكام والتشريعات بشكلٍ مقنع للمتلقي، مع تمكين الباحث من الوصول إلى المواضيع المتعددة التي يشتمل عليها كتاب الله بسهولة.
وبما يتعلق بالتفسير الموضوعي بمعناه الخاص، فهو يختلف كلياً عن معناه العام، كتحديد موضوع معين من حيث وجوده في القرآن أولاً، ثم من حيث المعنى ثانياً، وذلك لعدم الخلط بين القضايا، أو تداخل المسائل، ثم من حيث الأوصاف، كالإطلاق والتقييد، ومن الكتب التي تعين الباحث على تحديد الموضوع في هذا الإطار، هناك كتب كثيرة سبق وأن أشرنا إلى بعضٍ منها، ككتاب الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، ومناهج العرفان في علوم القرآن، للإمام الزرقاني، والبرهان في علوم القرآن، للإمام الزركشي، وغير ذلك، ولو عدنا إلى فهارس كتب التفسير التحليلي كتفسير الرازي والآلوسي، وابن عاشور وغيرهم، لوجدنا مئات الموضوعات القرآنية التي لموضوع منها يصح أن يكون بحثاً مستقلاً، ما يعني أن هذه الطريقة تحدد الموضوع الذي يُراد بحثه، ومن ثم يُصار تجميع الآيات ذات الصلة، ونختار العنوان الرئيسي من آية جامعة، ثم بعد ذلك ننصف الآيات بعد أن نقرأ تفسيرها في التفسير التحليلي، الجدير بالذكر أن التفسير الموضوعي يختلف تماماً عن التفسير التحليلي، حيث يسير الأخير بخطوات مرتبة كذكر المناسبة وأسباب النزول ونوع الآية (مكية أو مدنية)، ومعاني المفردات والإعراب والبلاغة، وغير ذلك، أما التفسير الموضوعي يفسر الآيات الجامعة بشكل عام لجهة الربط بين الآيات داخل الموضوع والخروج بموضوع متكامل، لكن لا يمكن تحققه بدون التفسير التحليلي، كلزوم الروح للجسد، أي يجب على الباحث أن يكون ملماً بقواعد التفسير وعلوم القرآن، وملاحظة أخرى، يجب مراعاة الترتيب الزمني للموضوع المحدد في التفسير الموضوعي، لجهة عدم تقديم آية على أخرى حتى ولو كانتا في ذات السياق.
*تفسير الرازي، للإمام فخر الدين الرازي، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين بن علي الرازي، المفسر والفقيه، 544 هـ – 606.
*روح المعاني، للإمام محمود شهاب الدين أبو الثناء الحسيني الآلوسي، مفسر، ومحدث، وفقيه، 1217هـ – 1270 هـ.
*البرهان في تفسير القرآن، لـ بدر الدين الزركشي أبو عبد الله، بدر الدين، محمد بن بهادر بن عبد الله، 745 هـ – 794 هـ.
*الإتقان في علوم القرآن، لـ الإمام السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد ابن سابق الدين الخضيري السيوطي المشهور باسم جلال الدين السيوطي، 849 هـ – 911 هـ.
*مناهج العرفان في علوم القرآن، للإمام محمد بن عبد الباقي الزرقاني، فقيه ومحدث، 1055 هـ – 1122 هـ.
*تفسير ابن عاشور، محمد الطاهر بن عاشور عالم وفقيه تونسي، أحد أبرز علماء التفسير في العصر الحديث، 1879 – 1973.
بالتالي، نالت بعض المواضيع القرآنية جهداً كبيراً من العلماء؛ فصنفوا بها مصنفات واسعة وكثيرة، من هذه المواضيع: المواضيع الفقهية لآيات الأحكام، إلّا أنّ هناك علوم ومواضيع علمية جديدة ظهرت تحتاج إلى ضبط قواعدها من خلال القرآن الكريم، مثل توجيه وضبط بعض المواضيع التربوية والاقتصادية والإعلامية التي ظهرت حديثاً، فالتفسير الموضوعي نوع من أنواع التفسير الذي بدأت أصوله تترسخ، ومناهجه تتضح منذ نصف قرن من الزمن، وللحديث بقية.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.