بعد التبحر في مسألة الإقرار بالسرقة والقطع، من خلال طرح أدلة السرقة ورأي الفقهاء فيها، من خلال القواعد الشرعية، لجهة الضمان والقطع، القانون الشرعي كفل حق المجني عليه، أياً كانت دوافع السارق، من خلال ما يترتب على أدلة ثبوت السرقة، فمع شرح ضمان المال المسروق، نستكمل هذه السلسلة بشرح عقوبة القطع التي لا عفو فيها ولا تساهل.
أساس القطع: الأصل في القطع قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله)، وعقوبة القطع لا يحوز العفو فيها لا من المجني عليه ولا من رئيس الدولة، ولا يجوز أن تستبدل بها عقوبة أخرى أخف منها، كذلك لا يجوز تأخير تنفيذ العقوبة أو تعطيلها، وهذه المبادئ متفق عليها ولا يخالف فيها إلا الشيعة الزيدية، حيث يرون أن القطع يسقط عن السارق بعفو المجني عليه في السرقة، فإذا تعدد المجني عليهم وجب لسقوط القطع أن يعفو كل منهم، كذلك يرون أن للإمام مع وجوب إقامة الحد أن يسقط العقوبة عن بعض الناس لمصلحة، وله أن يؤخر إقامته إلى وقت آخر لمصلحة، على أن بعضهم يرى أن ليس للإمام إسقاط حد القذف ولا حد السرقة.
محل القطع: اختلف الفقهاء في محل القطع إلى حد كبير، ولهم فى ذلك آراء مختلفة، وأساس اختلافهم تأويل قوله تعالى: (فاقطعوا أيديهما) واختلافهم في صحة ما أُثر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إذ أن السارق إذا سرق قطعت يده في السرقة الأولى ولا قطع بعد ذلك إن عاد للسرقة، وعلى هذا فإن جزاء السرقة هو قطع اليد اليمنى في أول سرقة، أما السرقات الأخرى فلا قطع فيها، وإنما يعاقب السارق عقوبة تعزيرية، والحجة أن الله تبارك وتعالى قال: (فاقطعوا أيديهما) ولو شاء أمر بقطع الرجل ولو يكن الله تعالى نسياً، ويرى الظاهريون أن القطع واجب فى اليدين معاً، فإذا سرق قطعت إحدى يديه، فإذا عاد للسرقة قطعت يده الثانية، فإن سرق الثالثة عزر ومنع الناس ضره حتى يصلح حاله؛ أي حبس طويلاً حتى يصلح حاله، وحجتهم أن القرآن والسنة جاءا بقطع يد السارق لا بقطع رجله، فلا يجوز أن يقطع من السارق غير يديه، ومحل القطع عند الإمام أبي حنيفة النعمان (80 هـ – 150 هـ) والشيعة الزيدية على الرأي الأول.
الراجح في مذهب الإمام أحمد بن حنبل (164 هـ – 241 هـ) وهو اليد اليمنى والرجل اليسرى، فتقطع اليد اليمنى في السرقة الأولى، فإن عاد للسرقة قطعت الرجل اليسرى، فإن عاد فلا قطع بعد ذلك وإنما يحبس إلى مدة غير معينة حتى يموت أو تظهر توبته، وحجتهم في ذلك:
أن نص القرآن: (فاقطعوا أيديهما) قُصد منه اليد اليمنى فقط، ولأن القطع – قطع اليدين- يفوت منفعة الجنس، وكذلك قطع الرجلين معاً، فلا يستطيع أن يأكل أو يمشي أو يدفع عن نفسه.
ومحل القطع عند الإمام مالك بن أنس (93 هـ – 179 هـ) والإمام محمد إدريس الشافعي (150 هـ – 204 هـ) وعلى الرأي الثاني في مذهب الإمام أحمد بن حنبل هو اليدان والرجلان معاً، فتقطع اليد اليمنى أولاً، فإن عاد السارق قطعت رجله اليسرى، فإن عاد الثالثة قطعت اليد اليسرى، فإن عاد الرابعة قطعت رجله اليمنى، فإن عاد بعد ذلك حبى حتى يموت أو تظهر توبته، وحجتهم أن الله تعالى قال: (فاقطعوا أيديهما)، والأيدي اسم جمع والاثنان فما فوقهما جمع.
ويشترط الإمام أبو حنيفة النعمان لقطع اليد اليمنى أن تكون اليد اليسرى صحيحة، فإن كانت مقطوعة أو شلاء مقطوعة الإبهام أو أصبعين سوى الإبهام فلا تقطع اليمنى لأن القطع للسرقة شرع للزجر لا للإهلاك، فإذا لم تكن اليسرى يمكن الانتفاع بها فإن قطع اليمنى يؤدي إلى تفويت منفعة اليدين، وهو إهلاك للنفس من وجه، وإذا كانت اليسرى كذلك فلا تقطع الرجل اليسرى أيضاً؛ لأن قطعها يؤدي إلى ذهاب أحد الشيئين على الكمال ففيه إهلاك النفس.
ورأي الإمام أبي حنيفة فيما سبق يتفق مع رأي الإمام أحمد بن حنبل، ولكن الأخير يخالف في أنه يعتبر اليد التي ذهب معظم نفعها في حكم المعدومة، فلا يعتبر معدومة ما ذهب منها خنصر أو بنصر أو إبهام، أما أبو حنيفة فيعتبر في حكم المعدوم ما قطع منه إصبعان غير الإبهام، أو قطع منه الإبهام فقط، لأن ذلك في رأيه يفوت منفعة البطش.
ومن المتفق عليه بين جميع الفقهاء أن القطع يسقط إذا ذهب العضو المستحق القطع بسبب وقع بعد السرقة لا قبلها، سواء كان الذهاب بآفة، أو قصاص، أو جناية، فمن حصل له حادث بعد السرقة فذهبت فيه يده اليمنى سقط عنه القطع ولم ينتقل للرجل اليسرى، ومن قطع يمنى شخص بعد السرقة فحكم له بقصاص، فقطعت يده اليمنى، سقط عنه القطع للسرقة ولم ينتقل إلى الرجل اليسرى، أما إذا كانت الجناية التي حكم فيها بالقصاص وقعت قبل السرقة فالقطع ينتقل للرجل اليسرى، وإذا قطع شخص عمداً العضو المستحق القطع سقط القطع، وليس على العادي إلا التعزير، ويسقط القطع؛ لأن العضو المستحق ذهب بسبب نشأ بعد السرقة زلاً قصاص على العادي؛ لأنه قطع عضواً غير معصوم، والحكم بالقطع ما دام الاعتداء حدث بعد السرقة، وما دامت السرقة قد ثبتت وكانت مما يجب فيه القطع، وهذا هو رأي كل من الإمام مالك والإمام الشافعى والإمام أحمد بن حنبل إلا أن بعض المالكية يشترط أن يكون الاعتداء بعد ثبوت السرقة لا بعد وقوعها.
ويفرق المذهب الحنفي بين حالتين، حالة ما إذا كان الاعتداء قبل المخاصمة أو بعدها، فإن كان قبل المخاصمة فعلى المعتدي القصاص؛ لأن القطع لا يجب في السرقة إلا بالمخاصمة فكان العضو حين قطع غير مستحق القطع، فقطع وهو معصوم، وينتقل القطع في السرقة إلى الرجل اليسرى إذا كان المقطوع هو اليد اليمنى، كأن سرق ولا يمين له، أما إذا كان الاعتداء بعد الخصومة، فإن كان قبل القضاء فكذلك الجواب، في هذا الحالة لا تُقطع رجله اليسرى؛ لأنه لما خوصم كان الواجب في اليمين وقد فاتت، فسقط الواجب كما لو ذهب بآفة، وإن كان بعد القضاء فلا قصاص على القاطع؛ لأنه احتسب لإقامة حد الله تعالى فكان قطعه عن السرقة.
وإذا شهد بالسرقة فحسبه الحاكم لعدل الشهود، فقطعه قاطع، ثم عدلوا، فلا قصاص على القاطع عند الأئمة الثلاثة، وإن لم يعدلوا وجب القصاص، ولكن أتباع المذهب الحنفي لا يرون القصاص، لأن صدق الشهود محتمل فيكون ذلك شبهة.
ويرى الإمام أبو حنيفة النعمان ألا ضمان على القاطع لأن القاطع أتلف وأخلف خيراً مما أتلف، أي أنه إذا كان فعل القاطع أدى إلى إتلاف اليسرى فقد أدى إلى لإبقاء اليمنى وهي خير من اليسرى.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.