كثيراً ما تُبرِز وسائل الإعلام العالمية إطلاق كوريا الشمالية صواريخها قرب اليابان أو كوريا الجنوبية كأنه ناشئٌ عن مزاجية متقلبة وخطرةتحركها الهواجس، لا القرارات العقلانية المدروسة. لكنّ بث مثل ذلك الانطباع المدسوس ليس سوى جزءٍ من حملة تشويه منهجية منظمةتواجهها جمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية منذ عقود، ولا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانفلات منظومة القطب الواحد لتقويضأواخر القلاع المناهضة للإمبريالية في أطراف الأرض، من كوبا إلى كوريا.
ما تتغاضى عنه وسائل الإعلام، الساعية لتشويه صورة جمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية وقيادتها، هو تصاعد الحشود والمناوراتالأمريكية واليابانية والكورية الجنوبية مؤخراً في محيطها المباشر. ففي شهر آب / أغسطس الفائت تحديداً، بدأت أكبر مناوراتأمريكية-كورية جنوبية منذ أعوام. وتضمنت تمارينها، التي شارك فيها عشراتُ آلاف الجنود وأعدادٌ ضخمةٌ من الطائرات والدبابات والسفنالحربية، محاكاةً لهجمات مشتركة، وتعزيزاً للخطوط الأمامية بالأسلحة والوقود، وعمليات “انتزاع” لأسلحة الدمار الشامل، بالذخيرة الحية.
أعلن الجيشان الأمريكي والكوري الجنوبي وقتها، في بيانٍ مشترك، أن مناورتهما الكبيرة المشتركة، تحت اسم “درع حرية أولتشي”، جاءترداً على تطوير كوريا الشمالية لتجاربها الصاروخية خلال العام الجاري. ويذكر أن تلك المناورات ظلت تجري سنوياً حتى توقفت بعد عام2018، وتمت عبر محاكاة حاسوبية عام 2019، وكانت جرت على نطاق واسع لآخر مرة عام 2017.
تحمل تلك المناورات السنوية تنويعاً على اسم “أولتشي” Ulchi، وهو قائد عسكري كوري، انحدر من منطقة قريبة من بيونغ يانغ، عاصمةكوريا الشمالية اليوم، في نهاية القرن السادس وبداية القرن السابع الميلادي. وكانت المملكة، التي شغل “اولتشي” منصب القائد العاملجيوشها، تمتد في أوج قوتها عبر معظم شبه الجزيرة الكورية، وعبر منشوريا، شمالي شرقي الصين، وأجزاء من منغوليا. وكانت أهم مآثر”أولتشي”، بحسب الروايات المتواترة من الزمن الغابر، أنه هزم جيشاً صينياً ضخماً بلغ حجمه أكثر من مليون مقاتل.
العبرة المعاصرة، عندما تتبنى الولايات المتحدة وحلفاؤها الجنرالَ “أولتشي” عنواناً لمناورات عسكرية، واضحةٌ جداً، بالنسبة لبيونغ يانغ،وبالنسبة لبكين أيضاً: إطاحة نظام الحكم في كوريا الشمالية، وهزيمة الجيش الصيني.
لم تتوقف المناورات والحشود المعادية من حول كوريا عند مناورات “درع حرية أولتشي”، كما سميت عام 2022، إذ بدأت الولايات المتحدةالأمريكية وكوريا الجنوبية، الأسبوع الفائت، مناورة تحت عنوان “العاصفة اليقظة”، شاركت فيها 240 طائرة حربية قامت بـ1600 طلعةجوية ،كان يفترض أن تنتهي يوم الجمعة الفائت، لكنْ جرى تمديدها بعد إطلاق كوريا الشمالية الأربعاء الفائت دفعة من 23 صاروخاً وقعأحدها في المنطقة الاقتصادية الخالصة لكوريا الجنوبية. في اليوم ذاته، أطلقت كوريا الشمالية صاروخاً بالستياً وقع خارج المنطقةالاقتصادية الخالصة لليابان، ونحو 100 قذيفة مدفعية باتجاه بحر اليابان.
كوريا الشمالية في مواجهة الناتو شرقاً
أرادت كوريا الشمالية القول بصواريخها إذاً إنها ليست خائفة من استعراض القوة والتهديد الماثل، وإنها ليست هدفاً سهلاً ولا لقمة سائغة. وهي تعرف أنها لا تواجه كوريا الجنوبية وحدها، بل تواجه القيادة العسكرية الأمريكية لمنطقة المحيطين الهادئ والهندي US Indo-Pacific Command، التي يوجد فيها، بحسب الموقع الرسمي للقيادة العسكرية الأمريكية للمنطقة المذكورة، 375 ألف جندي وموظفمدني أمريكي، و200 سفينة، تتضمن خمس مجموعات حاملات طائرات، و1100 طائرة حربية، و130 ألف عسكري ومدني يتبعون للبحريةالأمريكية (وليس المقصود بـ”الموظفين المدنيين” هنا أساتذة مدارس أو عمال إغاثة طبعاً).
لا يتضمن ما سبق أصول القوات التابعة والحليفة، إذ تقع تحالفات مثل “كواد” Quad (مشروع إنشاء الناتو الآسيوي من الولايات المتحدةواليابان والهند وأستراليا)، ومثل “أوكوس” AUKUS (الذي ستساعد الولايات المتحدة وبريطانيا أستراليا بموجبه على تصنيع غواصاتأسترالية تعمل بالطاقة النووية ونشرها، لتعزيز الوجود العسكري الغربي في المنطقة)، ضمن صلاحيات القيادة العسكرية المركزية لمنطقةالمحيطين الهادئ والهندي.
شاركت كوريا الجنوبية مثلاً، في هذا السياق، إلى جانب الولايات المتحدة في حرب فيتنام، ودعمت الاحتلال العسكري الأمريكي لأفغانستانوالعراق. ولم تتوقف المناورات العسكرية الكبيرة بينها وبين الولايات المتحدة بعد عام 2017 إلا بعد سنتين من وصول رئيس كوري جنوبيللحكم سعى إلى التقارب مع كوريا الشمالية.
أما بعد تبوء “زلمة الأمريكان” يون سوك يؤل سدة الرئاسة الكورية الجنوبية في 10 أيار / مايو الفائت، على أساس برنامج تعزيز العلاقاتمع الإدارة الأمريكية، عسكرياً وأمنياً، فقد تصاعدت التوترات في شبه الجزيرة الكورية طبعاً. و”صودف” أيضاً أن وصول يون سوك يؤلإلى السلطة جاء ملائماً جداً للأمريكيين في خضم تفاقم أزمة تايوان، ومشروع احتواء الصين كأهم خطر استراتيجي طويل المدى يواجهالهيمنة الأمريكية على العالم، بحسب “استراتيجية الدفاع القومي” التي أعلنها البنتاغون رسميا الشهر الفائت.
ماذا وراء الرد الكوري الشرس على عرض اقتصادي سخي؟
هذا السياق مهم لفهم طريقة تشويه الخبر الكوري إعلامياً. فعندما وقفت كيم يو جونغ، أخت زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون (انتبهلوضع اسم العائلة في البداية، فجدهما هو الرئيس كيم إيل سونغ، وأبوهما هو الرئيس كيم جونغ إيل)، وطلبت من الرئيس الكوري الجنوبييون سوك يؤل، يوم 18 آب / أغسطس الفائت، أن “يغلق فمه”، ووصفت عرضه لكوريا الشمالية بمساعدتها اقتصادياً مقابل التخلي عنسلاحها النووي بأنه “سخيف”، قائلةً إن أحداً لا يتخلى عن مصيره مقابل “كعكة ذرة”، وإن الرئيس الكوري الجنوبي شخص “صبياني”و”ساذج”، جرى تصوير الأمر في وسائل الإعلام الغربية كأن السيدة كيم يو جونغ استيقظت من النوم فجأةً يوماً ما، وقررت أن تهين الرئيسالكوري الجنوبي الذي يمد يد المساعدة إلى بلدها!
قدّم الرئيس الكوري الجنوبي العرض ذاته، في خطابه الأول يوم تولي الرئاسة رسمياً، ولم يستجر ذلك ردة الفعل ذاتها من طرف كورياالشمالية، إنما أجرت كوريا الشمالية بنجاح تجربة إطلاق صاروخ بالستي أخرى، للمرة الثانية في تاريخها، في 24 آذار / مارس الفائت،بعد أسبوعين من انتخابه، وقبل أن يستلم السلطة رسمياً.
لكنْ، عندما أعاد الرئيس يون سوك يؤل تقديم العرض بمناسبة مئة يوم على استلامه الحكم، كانت القوات الأمريكية والكورية قد تجمعتلإجراء أضخم مناورات تستهدف كوريا الشمالية منذ عام 2017، عندما أجرت كوريا الشمالية وقتها أول 3 تجارب ناجحة لإطلاق صواريخبالستية عابرة للقارات.
لم يكن عرض الرئيس الكوري الجنوبي سلمياً، بغض النظر عن موقف كوريا الشمالية منه، بل كان تهديداً مباشراً. لذلك، جاء الرد الكوريالشمالي، على لسان أخت كيم جونغ أون، قبل يوم أو يومين من تلك المناورات، شرساً بالضرورة، من دون أن يضطر الرئيس كيم جونغ أونإلى التنازل للرد عليه شخصياً.
دور اليابان في الاستراتيجية الشرقية للناتو
يذكر أن قيادة الجيش الكوري الجنوبي تؤول إلى البنتاغون تلقائياً في حالة اندلاع الحرب، وأنه يسعى منذ عقودٍ للحصول على استقلاليتهعن الجيش الأمريكي، وتعد مشاركته في مناورات، مثل “درع حرية أولتشي”، واحدة من عدة شروط يسعى جاهداً لاستيفائها من أجل نيلتلك الاستقلالية، بينما يماطل الأمريكيون، الذين ربما يرون في تصعيد التوتر حول شبه الجزيرة الكورية من شروط إبقاء العملاق الصناعيالصاعد في كوريا الجنوبية تحت بسطار “العم سام” الذي يضع فيها أكثر 28 ألف جندي أمريكي.
أما اليابان، فيقبع فيها نحو 55 ألف جندي أمريكي، ولم تكد تنتهي المناورات الكبيرة الأمريكية-الكورية الجنوبية، والتي استمرت 11 يوماً،في نهاية آب / أغسطس حتى أعلن أول أيلول / سبتمبر عن مناورات مشتركة ثلاثية بحرية تضم اليابان والولايات المتحدة الأمريكية وكورياالجنوبية، في المياه الدولية في بحر اليابان، شرقي الساحل الكوري الشمالي، كان هدفها المعلن مواجهة القدرات البحرية المتنامية لكورياالشمالية، لا سيما غواصاتها الـ70، المتقادمة عموماً، باستثناء غواصة تجريبية جديدة تزعم تقارير غربية أنها قادرة على إطلاق صواريخبالستية مسلحة نووياً.
جرى تصوير المناورات الثلاثية الأمريكية-اليابانية-الكورية الجنوبية إعلامياً بأنها ردٌ على إطلاق كوريا الشمالية صاروخين بالستيين شرقاً،قبل بدء تلك المناورات بيومٍ واحد، كأن كوريا الشمالية تتحرش باليابان، من دون ذكر المناورات العسكرية الأمريكية-الكورية الضخمة،والجارية في المنطقة آنذاك، ومن دون إيضاحٍ مفاده أن التخطيط والتحضير لمناوراتٍ غير دورية، لها هذا الحجم، لا يجري بين ليلةٍ وضحاها.
لم يكن مستغرباً إذاً أن تطلق كوريا الشمالية شرقاً، بعد أقل من أسبوع من المناورات البحرية الثلاثية المعادية، صاروخاً بالستياً ثالثاً عابراًللقارات، ارتفع نحو 1000 كيلومترا في الجو، وسافر من فوق اليابان نحو 4500 كيلومتر، ليحط على بعد أكثر من 3200 كيلومتر شرقياليابان. وانطلق ذلك الصاروخ، بالمناسبة، من عمق البر الكوري الشمالي: لا حاجة إلى الغواصات، وكوريا قادرة أن تدافع عن استقلالها.
وذكرت وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية، يوم الإثنين، أن التجارب العسكرية الأخيرة التي أجرتها كانت رداً على التحركات العسكريةالاستفزازية من جانب الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية. وكان آخرها أربع صواريخ بالستية يوم السبت.
استراتيجية مدروسة، لا ردة فعل
ليست هذه بالطبع قائمة تفصيلية بما أطلقته كوريا الشمالية من صواريخ، في وتيرة متسارعة، خلال العام الجاري. في جميع الأحوال، لايجوز أن نصور التجارب الصاروخية الكورية الشمالية بأنها مجرّد تجاوب شرطي مع الاستفزازات الأمريكية والكورية الجنوبية واليابانية،إنما هو نهجٌ تبنته جمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية رداً على التهديد الوجودي لبقائها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ودول المنظومةالاشتراكية في وقتٍ كانت الصين معنيةً بتحسين العلاقات مع الغرب عموماً، وبالولايات المتحدة خصوصاً، فيما تبين لاحقاً أنه استراتيجيةاختراق لمنظومة العولمة، تجارياً واستثمارياً.
تسبب انقطاع الدعم السوفياتي، وما عدته بيونغ يانغ تخلياً صينياً عنها، بمصاعب جمة لكوريا الشمالية شعباً واقتصاداً. وبلغت تلكالمصاعب ذروتها في أواسط التسعينيات، مع دخول الاقتصاد الكوري أزمة اقتصادية عامة وانتشار مجاعة قضت على مئات الآلاف، وربماملايين الكوريين الشماليين، وهو ما فاقمه انقطاع استيراد حوامل الطاقة من الاتحاد السوفياتي، الذي كف عن الوجود، وسلسلة من دوراتالجفاف والفيضانات التي قضت على المحصولين الزراعي والحيواني، واللذين لم يكفيا كوريا الشمالية يوماً، لأن 80% من أرضها جبليةوعرة تصعب زراعتها، وتقبع في الصقيع 6 أشهر في السنة.
بدأت كوريا الشمالية تخضع للعقوبات في الثمانينيات بتهمة “دعم الإرهاب” والشروع في إقامة برنامج نووي. ولم تكن تلك العقوباتقاصمة من قبلُ. وأصرت كوريا الشمالية على المضي قدماً في مشروعها النووي، ولا سيما بعد تغول الولايات المتحدة على العراق عام2003. وهي تشير في خطابها رسمياً إلى أن خطأ العراق المميت كان تخليه عن برنامج أسلحة الدمار الشامل، الذي كان سيحمي العراقمن الغزو والاحتلال لو بقي، وتعمق هذا الاستنتاج الكوري من تجربة عدوان الناتو على ليبيا عام 2011، بعد تخليها عن برنامج أسلحةالدمار الشامل عقب احتلال العراق.
انتقلت كوريا الشمالية، في عز أزمتها الاقتصادية والغذائية، من برنامج نووي سلمي إلى تطوير قنبلة نووية جرى اختبارها لأول مرة في 9 تشرين الأول / سبتمبر عام 2006. وهنا انصبت على رأس كوريا الشمالية سلسلة متصلة من حزم العقوبات التي فرضها مجلس الأمنبموافقة روسيا والصين، أو بمحاولتيهما التخفيف من وطأة العقوبات المفروضة في تلك القرارات، التي راحت تتراكم وتخنق كوريا خنقاً،ابتداءً من القرار رقم 1718، عام 2006، وصولاً إلى القرار 2397 بعد إطلاق كوريا الشمالية صاروخاً بالستياً عابراً للقارات بنجاح، للمرةالأولى عام 2017. وسبق هذه المجموعة قراران آخران لمجلس الأمن ضد كوريا الشمالية، أحدهما القرار 825، عام 1993، بعد انسحابكوريا الشمالية من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، والقرار رقم 1695، عام 2006، بعد إجراء كوريا الشمالية تجارب لإطلاق صواريخ بالستية.
تبع تلك القرارات، بعد عام 2017، قراراتٌ أخرى من مجلس الأمن، تمدد عمل اللجان المختصة المنبثقة عن القرارات السابقة. لكنْ، معتصاعد التناقضات بين روسيا والصين من جهة، والغرب الجماعي من جهةٍ أخرى، كان المد الدولي قد تحول، وفي عام 2022، أحبط الفيتوالمزدوج أو المعارضة الروسية-الصينية المسبقة استصدار قرارات جديدة من مجلس الأمن ضد كوريا الشمالية ثلاث مرات على الأقل: في26 أيار / مايو، في 1 حزيران / يونيو، وقبل أيام، بعد آخر إطلاق بالستي كوري شمالي.
أثمر الصبر الاستراتيجي في مواجهة التجويع والحصار الخانقين في الحفاظ على مصير بلد صغير نسبياً، يبلغ حجمه أكثر بقليل من 120 ألف كيلومتر مربع (توجد 13 دولة عربية أكبر منه مساحةً)، ويبلغ عدد سكانه نحو 26 مليوناً، بحسب تقديرات عام 2022.
كذلك، أثمرت أزمتا أوكرانيا وتايوان خيراً بالنسبة لعلاقة بيونغ يانغ مع كل من روسيا والصين. وأثمر احتمال ضغوط روسيا والصينالشديدة على كوريا الشمالية، والصبر في مواجهة الحرب الاقتصادية الضروس التي يشنها الغرب وحلفاؤه عليها، في الفوز ببرنامجيسلاح نووي متكامل وصواريخ بالستية عابرة للقارات يقضان مضجع القيادة العسكرية الأمريكية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
التحولات الدولية بوابة فرج لكوريا الشمالية
لا شك في أن القيادة الكورية الشمالية صفقت فرحاً عندما رأت القاذفات الاستراتيجية الروسية والصينية تجري مناورات جوية واسعةالنطاق فوق بحر اليابان، الذي يفصل بين الساحل الروسي والصيني والكوري من جهة، واليابان من جهةٍ أخرى، بينما كان الرئيس بايدنيجري محادثات تأسيس التحالف الرباعي “كواد” في طوكيو، لتتابع القاذفات القادرة على حمل أسلحة نووية جولتها إلى بحر الصين الشرقي.
واليوم، باتت روسيا والصين تخطبان ود كوريا الشمالية، فهي حجر زاوية لا غنى عنه في مواجهة الهيمنة الأمريكية في أقصى الشرق، كماكانت في بداية خمسينيات القرن العشرين إبان الحرب الباردة في عزها. وفي 6 سبتمبر / أيلول الفائت، اتهمت وزارة الخارجية الأمريكيةروسيا بأنها على وشك شراء ملايين الصواريخ وقذائف المدفعية من كوريا الشمالية لاستعمالها في أوكرانيا.
كان من المنطقي أن تعود كوريا الشمالية إلى سابق أهميتها الجغرافية-السياسية في عين روسيا والصين مع تصاعد التوترات الدولية،وصار لا بد من تعزيز دفاعاتها وحمايتها استراتيجياً، لأن حدودها مع الصين تمتد 1352 كيلومتراً، وأغلبية تجارة كوريا الشمالية تمر عبرالصين.
أما حدودها القصيرة مع أقصى الشرق الروسي، فتمتد 17 كيلومتراً في البر، ونحو 22 كيلومتراً في البحر. والحدود الروسية-الكوريةالشمالية، على الرغم من قصرها، تمثل شرياناً حيوياً لروسيا، لأن سكة حديد تمر عبرها إلى مرفأ راسون الكوري، الذي لا يتجمد شتاءً،على عكس مرفأ فلاديفوستوك الروسي، ليصبح المرفأ الكوري رئة أقصى الشرق الروسي في الشتاء. لهذا، تدير شركة روسية أحد أرصفته الثلاثة.
هددت الإدارة الأمريكية كوريا الشمالية، الأسبوع الفائت، على لسان الناطق باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، في مؤتمر صحافي،بـ”ثمن باهظ وعواقب وخيمة” إذا أجرت اختباراً سابعاً للسلاح النووي. فلماذا التوقف عند الاختبار السابع تحديداً للسلاح النووي الكوريالشمالي، لا العاشر أو الثاني عشر؟! وهل أصبح تهديد كوريا الشمالية عسكرياً ذريعةً لحشد القوى في أقصى الشرق ضد روسياوالصين؟
لم تتوقف كوريا الشمالية عند الماضي، على رغم الألم، واصطفت فوراً مع روسيا في أوكرانيا ومع الصين في أزمة تايوان. ويدرسالاستراتيجيون الأمريكيون حالياً إمكانية تدخل كوريا الشمالية إلى جانب الصين عسكرياً بصورة مباشرة، إذا اشتعل مضيق تايوان، أوبصورة غير مباشرة، عبر إشغال القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية واليابان وجزيرة غوام، من خلال إشعال الجبهة الكورية.
ثروة من المعادن الكورية الشمالية قيمتها ترليونات الدولارات
لكن كوريا الشمالية ليست موقعاً جغرافياً-سياسياً حساساً فحسب، بل تحتوي أرضها على أكثر من 200 نوعٍ من المعادن، بعضها منالصنف النادر. وقدرت قيمتها شركة التعدين التابعة للدولة في كوريا الجنوبية بـ6 ترليونات دولار (بحسب موقع “بلومبيرغ” في20/1/2012)، وقدر قيمتها مركز أبحاث كوري جنوبي بـ10 ترليونات دولار (بحسب موقع “ذا إيكونومست” في 5/5/2016). ومن هذهالمعادن احتياطات مثبتة ومحتملة من الحديد والزنك والنحاس والذهب والغرافيت (المادة الموجودة في أقلام الرصاص) والتنغستون (المادةالموجودة في أسلاك لمبات الإنارة) والكلس، وغيرها كثير، بالإضافة إلى احتياطيات مثبتة من أجود أنواع الفحم، واحتياطيات محتملة منالنفط والغاز.
العائق أمام استخراجها؟ نقص رأس المال، وتخلف وسائل التعدين تكنولوجياً، وخوف الشركات العالمية، حتى الصينية والروسية منها، منالوقوع تحت ربقة العقوبات. لذلك، بمقدار ما يتفاقم الصراع بين روسيا والصين والقوى الصاعدة من جهة، والغرب وأذنابه من جهةٍ أخرى،بمقدار ما ينفك عقال الطاقات الاقتصادية الضخمة الكامنة في الجبال الكورية. والشركات الصينية وغيرها قادرة، عندما يزول الخوف منالعقوبات، على أن تحول كوريا الشمالية إلى جنة خلال عامين أو ثلاثة ربما.
موقف مبدئي ثابت من الكيان الصـ.ـهـ.ـيـوني
أخيراً، وليس آخراً، تستحق كوريا الشمالية منا كل الدعم والتأييد، لأنها من الدول القليلة في العالم التي ما برحت تصر على رفض حقالكيان الصـ.ـهـ.ـيـوني بالوجود، ولأنها ترفض أي شكل من أشكال التطبيع معه، حتى بعد اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة وكل الانهيارات.
وفي عام 1988، عندما اعترف المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر بحق الكيان الصـ.ـهـ.ـيـوني بالوجود على الأرض المحتلة عام1948 (تحت ستار “إعلان الدولة”)، أعلنت كوريا الشمالية أنها تعترف بفلسطين على كامل التراب الوطني الفلسطيني، وأنها تعد الجولانبكامله أرضاً سورية. ويكفي هذا وحده كي نقف معها بكل ما نملك من قوة، فما بالكم إذا كانت قلعةً شامخةً في مواجهة الإمبريالية أيضاً؟
إبراهيم علوش – الميادين نت