إذا كنّا قد احتفينا بالمواقف المشرّفة التي أظهرتها الشعوب العربية في مونديال قطر ضد الكيان الصهيوني، فإنه في الوقت ذاته كان هناك موقفٌ آخر مشرّف جرت أحداثه في القاهرة بعيدًا عن أضواء الدوحة، وذلك عندما قرر اتحاد كتّاب مصر إحالة ثلاثة من الكتّاب إلى اللجنة التأديبية في نقابة اتحاد الكُتَّاب بتهمة التطبيع مع الكيان الصهيوني، هم علاء الأسواني ويوسف زيدان ومنى البرنس، بعدما ثبت بالدليل أنّ الأسواني أجرى مقابلة إذاعية مع إذاعة الجيش الإسرائيلي باللغة الإنجليزية، تحدّث خلالها عن روايته الجديدة، أما يوسف زيدان فلأنه أعلن رغبته في إلقاء محاضرة في جامعة تل أبيب، فيما نشرت منى البرنس صورتها مع السفير الإسرائيلي في القاهرة، وأذيع تقريرٌ عن المقابلة على إحدى القنوات الإسرائيلية؛ وخطوةُ إحالتهم إلى لجنة التأديب هي تمهيدٌ لشطبهم من عضوية الاتحاد، تنفيذًا لقرارات الجمعية العمومية التي صدرت عام 1995، التي تحرم وتجرم التطبيع مع العدو الإسرائيلي حسب تصريح د. علاء عبد الهادي رئيس النقابة العامة لاتحاد كتّاب مصر. وقد تم إخطار الكتّاب الثلاثة بما هو منسوب إليهم من تهم، لكنهم – كما أوضح خليل الجيزاوي عضو مجلس إدارة النقابة ورئيس لجنة النشر في الاتحاد – لم يحضروا إلى لجنة التحقيق، “فتمّت إحالتهم إلى اللجنة التأديبية تمهيدًا لشطب عضويتهم وفصلهم من اتحاد كتاب مصر بما ثبت لدينا من اتهامات صريحة بالتطبيع”.
ويبدو أنّ يوسف زيدان استبق شطبه ببيان نشرَه في صفحته في الفيسبوك قال فيه: “ردًّا على السخافات السَّمِجة والتصريحات المُنفلتة التي ملأت وسائل الإعلام والتواصل، فإنني أُعلن عبر هذه الصفحة استقالتي من النقابة المسماة “اتحاد كتاب مصر”، بعد قرابة أربعين سنة كنتُ مُلتزمًا خلالها بسداد الاشتراكات المقررة على الأعضاء، ودفع اثنين بالمائة من دَخلي المالي، برضا وسماحة نفس، لدعم ميزانية هذا الكيان.. وفي المقابل، دون السعي أو الحصول من تلك النقابة (الاتحاد) على أيِّ نفعٍ من أيِّ نوع، خلال مُدة عضويتي”.
لقد أعاد اتحاد كتّاب مصر إلى الأذهان فصل الكاتب المسرحي الراحل علي سالم من الاتحاد عام 2001، بعد زيارته للكيان الإسرائيلي عام 1994، قبل صدور قرار الجمعية العمومية بخصوص التطبيع، وفور صدور القرار بدأت مراحل التحقيق في قضية تطبيع علي سالم، بعد تحذيره مرات عدة بالتراجع عن مواقفه التطبيعية، ليتم إقرار فصله من الاتحاد عام 2001، ولم يتعامل أحدٌ مع مسرحياته فيما بعد حتى وفاته؛ وقد سرد أحداث رحلته ولقاءاته مع إسرائيليين في كتابه “رحلة إلى إسرائيل”، الذي صدر في مصر وتُرجم إلى العبرية والإنجليزية. وعندما قررت جامعة بن جوريون في يونيو 2005، منح علي سالم درجة الدكتوراة الفخرية، منعته السلطات المصرية من الخروج من مصر لحضور حفل منحه الدكتوراة.
في الواقع فإنّ النقابات المهنية المصرية كانت وما تزال على رأس الجهات غير الرسمية التي وقفت سدًا منيعًا ضد التطبيع، لدرجة وصْفها – من جانب دراسة صدرت عن معهد أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب – بالعقبة المركزية أمام العلاقات بين مصر وإسرائيل؛ فوفق دراسة استعرضتها دعاء عبد اللطيف في موقع “الجزيرة نت” حملت عنوان: “هل تشكّل النقابات المهنية المصرية عقبة أمام توثيق العلاقات مع إسرائيل؟” أوضحت أنّ النقابات المصرية التي تضم ملايين العاملين ترفض تطوير علاقات مدنية مع إسرائيل منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي حتى الآن، رغم المصالح الاقتصادية الضخمة بين القاهرة وتل أبيب، والتي توسعت في السنة الأخيرة في مجالات الطاقة والسياحة. ويرى معهد الأمن القومي الإسرائيلي في الدراسة، أنّ وسائل الإعلام المصرية تتناول العلاقات الاقتصادية مع تل أبيب بشكل متواضع، خشية ردود فعل الرأي العام، ولفت النظر إلى أنّ “النقابات تمنع أعضاءها من التطبيع وتفرض عقوبات على من يخالف هذه القرارات”، وكانت نتيجة ذلك أن “ردعت هذه الممارسات النقابية أشخاصًا وشركات عن تطوير علاقات اقتصادية وغيرها مع إسرائيل، ومن أسباب ذلك التخوف من المس بمكانتها المهنية والتشغيلية في مصر والعالم العربي، في ظلّ موافقة صامتة من السلطات المصرية على السلام البارد”، حسبما تذكر الدراسة.
وفي سياق الحديث عن مواقف النقابات المهنية في مصر تجاه التطبيع مع إسرائيل، لا بد من الإشارة إلى واقعة حدثت في نوفمبر من العام الماضي، حيث أعلن اتحاد النقابات الفنية إيقاف الممثل والمغني محمد رمضان المتهم بالتطبيع لحين التحقيق معه، بعد أن انتشرت صورٌ له مع مجموعة من الإسرائيليين خلال حفل أقيم في دبي، وأثارت وقتئذ موجة غضب كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، فأصدرت نقابة المهن التمثيلية بيانًا صحفيًا أوضحت فيه أنّ ثمة فرقًا بين المعاهدات الرسمية التي تلتزم بها الحكومات العربية والمواقف الشعبية والثقافية والفنية من قضية التطبيع.
ولم تذهب صحيفة “يديعوت أحرونوت” بعيدًا عن الحقيقة، عندما ذكرت في تقرير تحليلي لها نُشر في يوليو 2016، أنّ النقابات المهنية المصرية ستظلّ السبب وراء منع أيّ تعاون شعبي مع إسرائيل. ولم يفت معدّ التقرير أن يتناول واقعة إسقاط عضوية الإعلامي والنائب توفيق عكاشة من البرلمان المصري، بسبب لقاء جمعه مع السفير الإسرائيلي لدى القاهرة في منزل الأخير، في مارس 2016، رابطًا الموقف البرلماني بالموقف النقابي، واستطرد “أي نقابي يتعاون مع تل أبيب تتم معاقبته، ومن يتم ضبطه متلبسًا في عملية التطبيع يُرغم على الاعتذار والتعهد بعدم تكرار تلك “الخطيئة”. القلائل الذين رفضوا خسروا وظائفهم ومصدر رزقهم”.
ورفضُ المثقفين المصريين التطبيع مع إسرائيل ليس وليد لحظة وإنما هو متأصلٌ وقديمٌ يعود إلى البدايات الأولى لإقامة العلاقات بين مصر وإسرائيل، وذلك منذ خروج المثقفين ظهر يوم 31 يناير 1981 بالآلاف في مظاهرة حاشدة طافت أرض الجزيرة بالزمالك التي كانت تقام فيها فعاليات معرض القاهرة للكتاب، رافضين اشتراك إسرائيل في معرض القاهرة للكتاب، فكانت تلك هي المرة الوحيدة والأخيرة التي شارك فيها الكيان في المعرض، وأنزل المتظاهرون العلم الإسرائيلي وحرقوه أمام وسائل الإعلام، ورفعوا العلم الفلسطيني فوق كلّ دور النشر المصرية والعربية المشاركة في معرض الكتاب في ذلك العام، في سابقة كانت الأولى في تاريخ معارض الكتب.
لقد فشل التطبيع الشعبي في مصر فشلًا ذريعًا؛ فإضافة إلى مواقف الشعب المصري المشرّفة والرافضة لأيّ تقارب مع الكيان الإسرائيلي، فإنّ جهود النقابات المهنية المصرية لا يمكن إنكارها، فمثل تلك المواقف هي الداعمة دائمًا للحكومات، إذ أنها تعبّر عن رأي الشعوب، ممّا أثر على العلاقات الرسمية المصرية الإسرائيلية، التي تعيش حالة من البرود، وهو ما دعا الصحفية والكاتبة الإسرائيلية سمدار بيري أن تقول في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، إنّ السلام مع مصر “بحاجةٍ ماسّةٍ للإنعاش، خصوصًا من طرف صُنّاع القرار في القاهرة”، كما أشرتُ إلى ذلك في المقال السابق. وفي كلّ الأحوال لا يمكن أن يُفرض الحب بالقوة حتى بين شخصين، فما بالك بكيان اغتصب الأرض العربية، وقتل ونكّل بالأبرياء؟
زاهر بن حارث المحروقي
جريدة عمان : عدد الأثنين 12 / 12 / 2022 م