هذه هي الزيارة الخامسة لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى المنطقة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وعنوانها يتمحور حول تداعيات حرب غزة وصورة “اليوم التالي” لها، الأمر الذي ترفض تل أبيب حتى الآن تقديم أي مقاربة محدّدة له.
شملت الزيارة الخامسة لبلينكن كلاً من إسرائيل والسعودية والإمارات والأردن والسلطة الفلسطينية وقطر ومصر اللتين تلعبان دور الوسيط بين “حماس” والكيان الإسرائيلي، فضلاً عن تركيا واليونان، من دون أن ننسی الرسالة التي بعثت بها واشنطن إلى طهران عبر عاصمة خليجية وعنوانها الدعوة إلى ضبط النفس في المنطقة. ولكل من هذه المحطات دلالة معينة في مشهد الأحداث الجارية منذ مئة يوم على أرض غزة، إلا أن بلينكن كان حريصاً ـ كما في الزيارات السابقة ـ على التركيز على “اليوم التالي” لإنتهاء حرب غزة، علماً أنه لم يُلزم نفسه ولا الإسرائيليين بتوقيت معين لوقف النار. وكان لافتاً للإنتباه استبعاد بيروت من محطات جولته برغم الجبهة المفتوحة بين حزب الله وإسرائيل على طول الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة. وبدا واضحاً أنه ترك للمستشار الأميركي لشؤون الطاقة آموس هوكشتاين أن يزور بيروت ويُطلع المسؤولين اللبنانيين على المناخات التصعيدية في تل أبيب، وهي الرسالة نفسها التي نقلها منسق الشؤون الخارجية في الإتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إلى بيروت ولا سيما خلال إجتماعه برئيس كتلة نواب حزب الله في البرلمان اللبناني النائب محمد رعد.
وحسب المعلومات التي تسربت عن مضمون لقاء بلينكن مع عدد من قادة دول المنطقة، فإنه لم يحمل مشروعاً محدداً لإخماد نيران حرب غزة حتى الآن، “لكننا سمعنا حرصه علی عدم اتساع رقعة الحرب وتبادل المعتقلين إضافة إلی طرح فكرة “اليوم الآخر”، وهي في حقيقة الأمر أهداف إسرائيلية وظيفتها حماية أمن إسرائيل؛ بمعنی آخر، تريد واشنطن المساهمة في حفظ ماء وجه الإسرائيلي برغم كل ما ارتكبته آلته العسكرية من مجازر وأعمال إبادة طوال مئة يوم على أرض غزة، وكانت من بين تداعياتها الدعوى التي تقدمت بها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية.
وبرغم كل تداعيات “طوفان الأقصى”، تتمسك الإدارة الأميركية ولا سيما بلينكن ومستشار الأمن القومي الأمريكي جايك سوليفان بوجود فرصة لدمج الكيان الإسرائيلي في النظام الأمني الإقليمي، وبالتالي إستكمال مسار التطبيع ولا سيما بين الرياض وتل أبيب.
أما الرسالة التي أرسلتها واشنطن، عبر وسيط خليجي إلى طهران عشية زيارة بلينكن، فتقترح – حسب سفير إيران لدی دمشق حسين أكبري – حلاً سياسياً شاملاً لأزمات المنطقة شريطة ضبط النفس ومنع الانزلاق إلى حرب إقليمية شاملة. وقد أجابت طهران على الرسالة الأمريكية بأنها منخرطة حالياً في مسارين أساسيين؛ أولهما عدم اتساع رقعة الحرب، عكس رغبة بنيامين نتنياهو بتوسيع الجبهات وصولاً إلى حدوث مواجهة أمريكية ـ إيرانية؛ وثانيهما تحقيق وقف إطلاق النار بالسرعة المطلوبة لإنقاذ سكان غزة من ماكينة القتل العسكرية الإسرائيلية التي تمارس إبادة بشرية وإنسانية في غزة وتمنع وصول المساعدات للفلسطينيين الذين دخلت معانهاتهم شهرها الرابع بغطاء عسكري تُوفرّه الادارة الأمريكية؛ أما “اليوم الآخر” الذي تسعی إليه واشنطن، فليس سوى محاولة لأخذ مكاسب بالسياسة عجزت إسرائيل عن الحصول عليها في الميدان. أما الخشية من فتح ساحات جديدة، في تلميح إلى الساحتين اليمنية واللبنانية، فقد أوضح الجانب الإيراني للوسطاء أنه لا يتحكم بقرارات وسلوكيات أصدقائه وحلفائه في المنطقة بواسطة “الريموت كونترول”، ناصحاً الجانب الأمريكي بعدم إثارة مشاعر الشارع العربي والإسلامي أكثر مما هي عليه الآن.. وأكدت طهران أن الأوضاع بلغت حداً لا يمكن التكهن بمالآتها وعلی الجانب الأمريكي العمل علی عدم اتخاذ أي خطوة من شأنها تصعيد الموقف وتحديدا في جنوب لبنان والبحر الأحمر.
الوسيط الذي حمل الرسالة الأمريكية حرص علی التوضيح للجانب الإيراني أن الجواب علی الرسالة سوف يُسلم للوزير بلينكن خلال زيارته إلى إحدى العواصم الخليجية.. وهذا ما تم.
ونقلت مصادر ديبلوماسية مواكبة أن بلينكن سمع من معظم المسؤولين في العواصم التي زراها عدم رضاهم علی الموقف الأمريكي المنحاز للكيان الإسرائيلي في حربه المفتوحة علی غزة؛ كما أن مصر والأردن عبرا عن موقفهما الرافض لترحيل الفلسطينيين خارج الأراضي الفلسطينية؛ الأمر الذي جعل الوزير الأمريكي يُشدّد علی إمكانية السير باتجاه تأقلم الكيان مع المحيط الإقليمي في إطار برنامج إقليمي لسد الفراغ الأمني في المنطقة.
ورأت شخصية ديبلوماسية إقليمية أن الإدارة الأمريكية الحالية مُترددة في اتخاذ أي قرار من شأنه التأثير علی الإنتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وهي تعلم أن الشأن الخارجي قد لا يؤثر بشكل مباشر علی سير هذه الإنتخابات لكن اللوبي اليهودي (الإيباك) الذي ينشط في الأروقة الداخلية يستطيع التأثير إذا قرّر التحرك في هذا الإتجاه أو ذاك، وبالتالي لا ترغب الإدارة الحالية في استفزاز مشاعر هذ اللوبي حتى لا ينخرط في المعركة ضد الديموقراطيين الذين يواجهون ظروفاً انتخابية لا يُحسدون عليها.
وتزيد هذه الشخصية أن واشنطن هي الطرف الوحيد الذي يستطيع أن يحسم الحرب في غزة خصوصاً أن بلينكن حرص علی لقاء رئيس الكيان إسحاق هرتسوغ قبل أن يلتقي نتنياهو؛ غير أن واشنطن ما زالت تغطي حرب إسرائيل لأنها مقتنعة أن انتصار حماس هو انتصار لإيران وحلفائها وسيكون بمثابة كارثة للأمن القومي الإسرائيلي، وهو ما يؤمن به رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) وليام بيرنز.
وفي ظل هذه الأجواء تأمل المنطقة أن يخرج بلينكن بمقاربة تختلف عن سابقاتها من أجل ليس دعم مصلحة الشعب الفلسطيني وإنما من أجل تعزيز المصالح الأمريكية في المنطقة وإعادة المصداقية الأمريكية التي تسير علی رجل واحدة كالبطة العرجاء.
محمد صالح صدقيان
14 / 1 / 2024