اتصال السند، وعدالة الراوي، أن يكون الراوي ضابطاً، سلامته من الشذوذ، وسلامته من العلّة القادحة، هذه الشروط معروفة لأهل العلم والاختصاص في علوم الحديث، لكن من انتهجها والتزم بها مسلكاً رغم عدم ترتيبها على غرار باقي العلماء، إنما تدلل على عظيم فهم علوم الحديث، فكان التفسير لدى أصحاب هذا المسلك على درجة كبيرة وعالية من القيمة العلمية والمنهجية، وكيف وإن كنا نتحدث عن مؤسس علم أصول الفقه وإمام علم التفسير والحديث، الإمام، محمد بن إدريس الشافعي.
الإمام الشافعي، أخذ الدين ليس كواجب أخلاقي أو اتباع دون فهم، بل فهم الدين من خلال تأصيله وفق الكتاب والسنّة، واعتبرهما الأصل الأول والمصدران الوحيدان لأخذ علوم العقيدة الإسلامية، ومن خلالهما تم بناء الكثير من المؤلفات التي أثبتت مهنية وقيمة علمية تضاهي في عصرنا الحديث أعرق الجامعات، فالاستدلال بهذين المصدرين، يوضح أن الإمام الشافعي رأى أن كل من يريد الإمساك بعين الحق والحقيقة، فهما بين يديه، فكل ما يوافق تعاليمها وجب أن ثبته المسلم، وكل ما يخالفهما، وجب على المسلم نفيه، وفي هذا لا يشكك أحد، إلا كل حاقد على الدين الإسلامي، قال تبارك وتعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليما).
بالتالي، لإصدار الأحكام الشرعية لا بدّ له من أن وضع الضوابط والمعايير لتكون سنداً لأي فقيه أو مجتهد يريد أن يبحر في كنوز الأحكام الشرعية لإعطاء الحكم السديد والرأي الرشيد، تناسب حياة العصر في كل زمانٍ ومكان، وهذا ما سار عليه الإمام الشافعي في رحلته العقائدية، فكان خير إمام ليس في زمانه فقط، بل على امتداد الزمان.
هنا، لا بد من إبداء ملاحظة مهمة لأنها توضح أهمية علم أصول الفقه في وقتنا الحاضر، لأن كثير من المشرعين لديهم إشكالية (ما) وبالتالي ضوابط هذا العلم تعمل على حل أي إشكال يتعرض له أي مشرّع، بمعنى العصمة من أي خطأ قد يقع، أو من الممكن أن يقع، فعلم أصول الفقه مهمته وضع الضوابط والمعايير كي لا يتم خلط أي أمر، وبالتالي يكون الحكم منقوصاً أو خاطئاً.
ولعل أفضل من كتب في هذا الشأن وصنف كتباً في علم أصول الفقه، الإمام الشافعي، (أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ المطَّلِبيّ القرشيّ هو ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الشافعي في الفقه الإسلامي، ومؤسس علم أصول الفقه، وهو أيضاً إمام في علم التفسير وعلم الحديث، 150 – 204 هـ)، الغائب الحاضر الذي كان قاضياً للشريعة وإن لم يكن على منصة القضاء، هو الذي أثرى الفكر القانوني، وتعلم الناس منه الفقه الإسلامي، ومراعاة الواقع، حيث يتفرد في علومه بالقديم والجديد (ما كتبه في العراق وما كتبه في مصر) فعلمنا كيف يكون الفقيه مسايراً لواقعه، وتعلم الناس أيضاً منه، أنه قبل الكلام في أي أمر من الأمور لابد أن يكون هناك علم بالواقع، إضافة إلى المراجعة والتنقيح، فهو كان كثير المراجعة والتنقيح لآرائه ومنهجه وفقهه، وهذا ما نحتاجه في زمننا هذا.
ومع انتقال الإمام الشافعي من بغداد إلى مكة أول ما قام به هو المزج بين “فقه أهل الحديث (الحافظين الملتزمين بأقوال النبي)” و”فقه أهل الرأي (أصحاب الرأي والقياس)”، ليبدأ فقه ثالث الأئمة في النضوج، ومن هنا بدأت مسيرة وضع أسس الفقه الشافعي القائم على المزج بين أحكام السنة والقرآن الكريم والاجتهاد في المسائل والأحكام الدينية قياساً ما لم تكن في القرآن ولا السنة، ففي كتابه “الرسالة” وضع القواعد الفقهية الكلية فكان قبلة للفقهاء والعلماء في زمانه، والكتاب يضع الضوابط التي يلتزم بها الفقيه أو المجتهد لبيان الأحكام الشرعية لكل حديث ومستحدث في كل عصر، ولهذا هو مقصد رجل القانون ورجل الشريعة وكل مسلم إن أراد التعمق في أصول الفقه.
القرآن الكريم هو مصدر الهداية للعالمين، يجمع الأحكام العقدية والفقهية والأخلاقية، وكان الاهتمام به لفهم مقاصد الله تبارك وتعالى، فبقي التفسير زمناً طويلاً شفهياً إلى أن صنف الإمام الشافعي كتاباً بأحكام القرآن لكنه ضاع فتم حفظ أقواله في كتاب تمت تسميته “أحكام القرآن للشافعي”، وتجمع المصادر على أن الشافعي أول من صنف في أصول الفقه، فلم يسبقه أحد في تصانيف الأصول ومعرفتها، حيث استنبط علم أصول الفقه، ووضع للناس قانوناً كلياً يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع، واعتبر الزركشي أن أول من صنف في أصول الفقه هو الشافعي، بكتب “الرسالة”، و”أحكام القرآن”، و”اختلاف الحديث”، و”إبطال الاستحسان”، و”جماع العلم”، و”القياس” الذي ذكر فيه تضليل المعتزلة ورجوعه عن قبول شهادتهم، ثمّ تبعه المصنّفون في الأصول، واعتبر ابن عقيل الحنبلي، الشافعي أبا علم أصول الفقه، وكذلك ابن خلدون المالكي، يعتبره أول من كتب في هذا العلم.
الفقه لغةً: هو العلم بالشيء، وفهمه، واصطلاحاً: هو العلم بالأحكام الشرعية، والحكم الشرعي اصطلاحاً عند الأصوليين: هو خطاب الشارع المتعقل بأفعال المكلفين، وأما تعريف أصول الفقه: هو معرفة دلائل الفقه إجمالاً وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد.
أهمية علم أصول الفقه
يعتبر علم أصول الفقه من أشرف العلوم وأرفعها مكانة، لكونه الطريق الموصل إلى حكم الله تبارك وتعالى، لذلك كان له أهمية كبيرة لدى العلماء، لأنه يرسم الطريق القويم ويضبط أصول الاستدلال وذلك بتبيان الأدلة الصحيحة من المزيفة، وصيانة الشريعة الإسلامية لأن علم أصول الفقه هو قاعدة الأحكام الشرعية وأساس الفتاوى الفرعية، وهو الذي وضع المصادر، كما أن بوقوف المكلفين على قواعد الأصول، يتم معرفة مدارك الفقهاء المجتهدين والمنهج الذي سلكوه وطرق استنباطهم، والاطمئنان في النهاية على أن الأحكام الصادرة هي شرعية لا تمسها شائبة.
ويعتبر عصر النبوة هو عصر نشأة علم أصول الفقه، وهو العصر الذي بزغت فيه النواة الأولى لهذا العلم، حيث قام المنهج التشريعي على الوحي (القرآن الكريم والسنة النبوية)، فقد كان الصحابة رضي االله تبارك وتعالى عنهم، في زمن الوحي يهرعون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعرض مسألة ما، فإن كان الحكم قد أوحي إليه به أفتاهم وأجابهم، وإن لم ينزل الوحي، أفتاهم بعد فهم المسألة، أو انتظر الوحي ليدلهم على الحكم الصحيح، بالتالي، إن ما يميز الصحابة أن إدراكهم وفهمهم للأحكام كان سريعاً، فهم أمراء الفصاحة والبيان، في هذا الصدد يقول الإمام الشافعي: (فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها اتساع لسانها وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاماً ظاهراً يراد به العام الظاهر ويستغني بأول هذا منه عن آخره، وعاماً ظاهراً يراد به العام ويدخله الخاص فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به… إلخ).
ولم ينتقل الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم إلى دار الحق إلا بعد اكتمال الوحي من الكتاب والسنّة كدليلين من الأدلة الإجمالية أو الكلية الأساسية في علم الأصول، وأضحى الصحابة مؤهلين على الاجتهاد على ضوئهما، لكن لم تنحصر مصادر الفقه في الكتاب والسنة النبوية وإن كانا هما أصل لكل المصادر الأخرى، ما يعني أن عصر النبوة هو عصر التأسيس الحقيقي لهذا العلم، وأما عصر الصحابة فقد شهد تميزاً بارزاً ونقلة نوعية في علم أصول الفقه من حيث تطور المصادر الشرعية واتساع دائرة الأدلة، فظهر فيه الإجماع والاجتهاد الفردي في تفسير النصوص، وكذلك القياس، وفي ذلك قال شيخ الإسلام، ابن تيمية (661 – 728 هـ): (فإن الكلام في أصول الفقه وتقسيمها إلى الكتاب والسنة والإجماع وإجتهاد الرأي والكلام في وجه دلالة الأدلة الشرعية على الإحكام أمر معروف من زمن أصحاب محمد والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم من أئمة المسلمين).
الإمام الشافعي وأصول الفقه
أجمع العلماء على أن أول من صنّف ودوّن في علم أصول الفقه هو الإمام الشافعي وذلك كعلم مستقل عن غيره من علوم الشريعة لكن ليس تأسيساً لأن التأسيس كان في عصر النبوة كما ذكرنا آنفاً، فلقد كان أول من صنف وهنا بمعنى أنه رتب أبوابه وميز أقسامه في كتاب مستقل وهو كتاب “الرسالة” الذي هو مصنف أصولي صرف بإجماع العلماء، ويعود سبب تدوينه لعلم الأصول أنه وجد شيئاً من الفوضى عند البعض في طرق الاستدلال، ورأى جهلاً واضحاً لدى كثير من المحدثين الذين اقتصروا على الجانب الحديثي فقط، ولم يعيروا جانب الفقه اهتماماً كافياً حيث اكتفوا العمل بما يصل إليهم فيعملون بها دون النظر لمعناها أو مخالفة بعضها بعضاً ظاهرياً، فوضع الإمام الشافعي رحمه الله علم أصول الفقه ليكون ميزاناً وضابطاً لمعرفة الخطأ من الصواب في الاجتهاد وأن يكون قانوناً كلياً يلتزم به المجتهد في عملية استنباط الأحكام في المستجدات.
سمات منهج الإمام الشافعي
أولاً، عدم الخوض فيما لا يترتب عليه عمل: حيث تميز منهج الإمام الشافعي في مؤلفاته الأصولية بخلوه عما لا صلة بالعمل من المباحث الكلامية والمنطقية والمسائل التي لا توجد لها ثمرة في الفروع الفقهية، فكان يجنب مؤلفاته من علم الكلام كمسألة الجواز العقلي التي يكثر الأصوليون من الخوض فيها، وأما إلتزام الشافعي في هذا النهج دليل على فقهه واتباعه لمنهج السلف الصالح الذين يكرهون السؤال عما لم يكن.
ثانياً، الاقتصار على ما تمس الحاجة إليه: كان منهج الإمام الشافعي في تدوين أصول الفقه مقتصراً على بيان ما تدعو الحاجة إليه دونما زيادة في البيان عن قدر الحاجة في هذا العلم، مثل (البيان ومنزلة السنة من القرآن وحجية خبر الآحاد، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، والجمع والترجيح، وحجة الإجماع والقياس، وقول الصحابي،) وبالتالي مدار فروع علم الفقه دائر حول هذه الأصول.
ثالثاً، التعبير باللسان العربي بعيداً عن التعقيدات: امتاز أسلوب الشافعي بالفصاحة في الجمع بين البلاغة والوضوح وسلوك طريق القصد بين الإيجاز المخل والتطويل الممل، ساعياً وراء سرعة الفهم واغتنام الوقت، دون أن يتكلف الألفاظ الصعبة أو العبارات المعقدة مما يترتب عليها تعسير الفهم وإضاعة الوقت، وبالتالي كان بيانه من أنفع البيان.
رسالة الشافعي
ومن يقرأ كتاب “الرسالة” يرى شخصية الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بما يتمتع به من خصائص أدبية وعلمية، فهذا الكتاب هو خلاصة آرائه الأصولية وقاعدة مصنفاته الفقهية.
رابعاً، اعتبار خلاف أهل السنة وإهمال خلاف المبتدعة: لقد اقتصرت كتاباته على حكاية أقوال الحق.
خامساً، ترتيب الأدلة بحسب مرتبتها من الاستدلال بها: سلك الإمام الشافعي في تدوينه علم أصول الفقه مسلكاً حسناً حيث ذكر ترتيب الأدلة من جهة مرتبتها من الاستدلال بها.
وهذا يعني أن علم أصول الفقه لا يقصد لذاته، بل هو وسيلة لغيره، لذلك أولاه العلماء اهتماماً وعناية كبيرتين من عهد التأسيس وصولاً إلى عصر التدوين، فهو مرجع لكل طلاب العلم من طلاب الشريعة والقانون بكل تفرعاته، ومرجع لكل مشرّع الذي يريد وضع الحكم السديد، فالإمام الشافعي عمل بمقتضى مقاصد الشريعة الإسلامية بما يحقق المصلحة العامة لذلك كل قواعده الموضوعة هي الأقرب للحق مما جعل كثيرون يتبعون نهجه ويحاولون سلوك مسلكه، فلنكون على هذا النهج لنبتعد عن التعقيد وعدم التضخيم واتباع القواعد والأدلة الشرعية من خلال عرض أصول الفقه ومحاولة ربطه بالفروع الفقهية الواقعية في عصرنا الحالي في مختلف الأحكام ثم بيان أثر الاختلاف لنضمن الحكم السديد بما فيه الخير للجميع.
وبالتالي لكل الشرعيين والقانونيين مثل ما قال فقيه القانون الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري في مجمل كتبه حول هذه الدراسة والتمكن منها من خلال دراستها من مؤسس هذا العلم نفسه الذي استفادت منه كل المدارس الإسلامية من خلال دراسة القواعد التي وضعها محمد بن إدريس الشافعي، وعليه، إن رؤيتي الخاصة، أنه آن الأوان لأن نجدد أدوات الفهم لأصول الفقه، لا إلغائها ولا نقدها، بل تجديدها لأنه علم مهم بالعلوم الشرعية والتشريعية.
وبشيءٍ من التفصيل إن كتاب الرسالة، كتابٌ يعتبر مرجعٌ هام، شامل، غني، وفريد، ينتمي هذا الكتاب إلى الدراسات النصية والعقلية، فهو كتاب الرواية والدراية في آنٍ معاً، فيه من التحليلات والمناقشات، ما يجعله الكتاب الموضوعي الأول، كتبه عالم كبير من علماء اللغة العربيَّة والدين الإسلامي، مبدع في إقامة الحجة وإفحام المناظرين، فصيح اللسان، ناصع البيان، في الذروة العليا من البلاغة، عرف كيف يقوم بحجته حتى أطلق عليه اسم “ناصر الحديث”، إن الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، صاحب أول عمل في أصول الفقه والحديث أيضاً جمعه تحت عنوان كتاب “الرسالة”.
وكتاب “الرسالة” يعد من أكبر كتب أصول الفقه وأهمها وأشملها، ففيه معاني القرآن الكريم وفنون الأخبار وحجة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، حتى قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: (لم نكن نعرف الخصوص والعموم حتى ورد الشافعي)، وبالتالي إن ما ميز الإمام الشافعي ليكون ذائع الصيت إلى يومنا هذا في هذا العلم أسباب عديدة، منها:
أولاً، أوتي علماً دقيقاً بلسانٍ عربي، وهذا العلم أوصله إلى درجة التخصص، حتى عد في صوفو كبار علماء اللغة.
ثانياً، درس السنة النبوية من أعظم رجالاتها، مدركاً لصحيحها وجامعاً بين الأحاديث المعروفة في الحجاز والعراق، فاستطاع أن يعرف مقام السنة من القرآن، وحالها عند معارضة بعض ظواهرها لظواهر القرآن الكريم.
ثالثاً، أحاط بكل أنواع الفقه في عصره، وكان عليماً باختلاف العلماء من عصر الصحابة إلى عصره، وكان حريصاً أن يعرف أسباب الخلاف والوجهات المختلفة التي تتجه إليها أنظار المختلفين، وبهذا وغيره توفرت لديه الأداة لأن يستخرج من المادة الفقهية من أدلة الأحكام الشرعية.
فقد وضع الإمام الشافعي في كتابه “الرسالة” شروطاً في قبول الحديث هي أصل الشروط، التي وضعها علماء المصطلح، وهذه الشروط وفق الترتيب الذي جاءت به في الكتاب:
- اتصال السند.
- عدالة الرواة.
- أن يكون الراوي ضابطاً.
- سلامة الحديث من الشذوذ، وهو مخالفة الراوي لمن هو أوثق منه.
- سلامته من العلة القادحة.
بالتالي، إن هذه الشروط وإن لم يرتبها كما رتبها علماء الحديث بعده، مما يدل على عظم فهمه لعلم الحديث، ولذلك فقد ملأ كتبه بالأدلة على حجية السنة، والرد على من أنكر حجيتها، أو احتج ببعضها، وأنكر حجية البعض الآخر.
إن كتاب الرسالة، كتاب عظيم الشأن، حيث يعتبر أول كتاب ألف في علم أصول الفقه. أراد الإمام الشافعي بتأليفه هذا الكتاب أن يضع الضوابط التي يلتزم بها الفقيه أو المجتهد لبيان الأحكام الشرعية لكل حديث ومستحدث في كل عصر. وكتاب الرسالة يقع في مجلد واحد تناول فيه الشافعي المسائل الأصولية مثل حديث الواحد والحُجَّة فيه، وشروط صحة الحديث وعدالة الرواة، وردّ الخبر المُرسَل والمُنقطِع وغير ذلك من مسائل الأصول والترجيح، وتشكل مقدمة الرسالة الطويلة قسماً كبيراً من مادتها.
كتاب الرسالة ألفه الإمام مرتين، ولذلك يعده العلماء وكأنه واقع على كتابين، الرسالة القديمة، والرسالة الجديدة. أما الرسالة القديمة كتبها عندما كتب إليه عبدالرحمن بن مهدي أن يضع له كتاباً فيه معاني القرآن. ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة. فوضع لهُ كتاب الرسالة، وقال علي بن المديني “قلت لمحمد بن إدريس الشافعي: أجب عبدالرحمن بن مهدي عن كتابه، فقد كتب إليك يسألك، وهو متشوق إلى جوابك فأجابه الشافعي، وهو كتاب الرسالة التي كتبت عنه بالعراق، وإنما هي رسالته إلى عبد الرحمن بن مهدي”. وأرسل الكتاب إلى ابن مهدي مع الحارث بن سريج النقال الخوارزمي ثم البغدادي، وبسبب ذلك سمي النقال. وكتاب الرسالة المعروف حالياً هو الكتاب الذي ألفهُ في مصر أما الرسالة القديمة فقد فقدت.
الجدير بالذكر أن كتاب الرسالة يعتبر نسخة كاملة كتبت بخط تلميذ الإمام الشافعي، الإمام الرَّبيع المرادي (المتوفى 270 هـ) نسخها في حياة شيخه وكتب في آخرها إجازةً بنسخها سنة (265هـ)، وهي أقد المخطوطات الثابت تاريخها، يقول المزني: “ما زلت أقرأ في كتاب الرسالة للإمام الشافعي، وفي كل مرة أقرأ أجد فيها فائدة جديدة”، وأفضل من حقق كتاب الرسالة، العلامة محمود محمد شاكر.
فقد ورد في “جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر”: ورسالة الشافعي هي أصل علم (أصول الشريعة): ويجب أن نضرب المثل هنا (برسالة الشافعي) التي طبعها العالم الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر، فهو طبعها عن أصول مخطوطة ومطبوعة، وأقدمها نسخة منها بخط الربيع بن سليمان تلميذ الشافعي وراوي كتبه؛ فالأستاذ الشيخ شاكر حجة في علم الحديث النبوي، وفقيه متيقن للسنة التي هي أصل من أصول الدين، فلما تناول (الرسالة) يعدها للطبع لم يترك شاردة ولا هائمةً من اللفظ إلا ردها إلى مكانها من عربية الشافعي وأصوله التي في كتبه، وأثبت الاختلاف ورجح بعضه على بعض، وعمل في ذلك عمل العقل المفكر بعد أن ضبط كل اختلاف رآه إلى غير ذلك من أبواب التحرير والضبط، فإذا أنت قرأت الأصل دون التعليق رأيته قد سلم من كل عيب، وصار بياناً كله، بعد أن كان في الطبعة الأولى من (الرسالة) شيئاً مختلفاً يتوقف عليه البصير، فما ظنك بسائر الناس ممن يقرأ وليس له في هذا العلم قديم معرفة أو مشاركة؟ وأنت إذا قارنت هذه الرسالة بأي كتاب من الكتب التي أتقنها أصحابها من ثقات المستشرقين، وجدت الفرق الواضح، وعرفت فضل العربي على الأعجمي في نشر الكتب العربية، إذا هو حمل أصولها على أصول الفقه والدراية والتثبت، ولم تخدعه فتنة برأي لعله غيره أقوم منه وأجود.
وفي كتاب “الرسالة” للإمام الشافعي، قصد المشرع من وضع الشريعة للإفهام، فكتابة كتاب الرسالة في البداية كان السبب هو طلب عبدالرحمن بن مهدي، وهو من فقهاء المحدثين في البصرة، فلما “كتب عبدالرحمن بن مهدي إلى الشافعي، وهو شاب، أن يضع له كتاباً فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحُجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة؛ فوضع له كتاب “الرسالة”، ليكون سبب التأليف هو علاج المشكلة التي اعترضت ابن مهدي، وهي مشكلة “فهم” بالدرجة الأولى، أي فهم معاني الشريعة مما تعلَّق بدلالة القرآن الكريم، ومشكلة النسخ الراجعة إلى تعارض النصوص في مقتضياتها الدلالية، ثم بالدرجة الثانية قضية الاستدلال، وحجية بعض الأدلة، كالإجماع، وخبر الواحد، والتي فسرناها جميعاً بالمقال السابق في بحث كتاب “الرسالة” للإمام الشافعي. التي كان كل ما يوضحه الإمام عن البيان، وللتوضيح أكثر، كان الإمام الشافعي يستقرئ طرق العرب في تنزيل الكلام في الواقع، ليس فقط من حيث الفهم العام، وهو ليس المقصود بمبدأ الإفهام، ولكن يتعلق بإفهام الكيفيات، فالمقصود من حديث: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، أي كما وصف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، للهيئة والكيفية التي تتعلَّق بالتحقيق الواقعي والتنزيل.
وخلال العقدين الأخيرين زاد اهتمام الجامعات الغربية والأمريكية بالذات بالدّراسات الشرعيّة خاصّة الأصولية منها، وشارك بعض الباحثين المسلمين بقسط جيد من هذه الرسائل، فهناك رسائل عن الآمدي والقرافي والرازي والشاطبي، ومواضيع العرف والمصلحة، والسنة والقرآن، وتخريج الفروع على الأصول، والفروق والتقليد المذهبي ومذهب الظاهرية وغيرها من المذاهب، ويرتكز اهتمامهم بمباحث أصول الفقه وتاريخ الفقه، ولم يكن أفضل من كتاب الرسالة للإمام الشافعي حيث رتب فيه مصادر الأحكام الشرعية، وتوضيح العلاقات بين النصوص والمصادر والترجيح عند التعارض، وتنظيم هذه المصادر مع مناهج استنباط الأحكام الشرعية في ضوء الوحي، فالكتاب يضم سبعة فصول ومقدمة وملحق وخاتمة، يعقد الفصل الأول مفهوم البيان، والثاني مناهج الاستنباط، وفي الثالث السنة في الرسالة، والرابع القرآن في رسالة الشافعي، وفي الخامس تجد نظرية المعرفة عند الشافعي، والسادس عن الجدالات وأطرافها داخل الرسالة، وفي السابع الإجماع.
والشافعي هو الإمام الملهم الذي كان سبّاقاً في التوفيق بين مدرسة أهل الحديث والأثر التي مثلها أستاذه الإمام مالك بن أنس الأصبحي، ومدرسة أهل الرأي والقياس التي قادها أبو حنيفة رحمه الله، فجاء مذهب الشافعي وسطياً يجمع بين تقديس الآثار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والاحتفاء بها والوقوف عند منطوقها وبين إعمال العقل واحترام الرأي، فكان كثيرين من الناس يسألون الإمام عن تفاصيل معينة، ولكن الجدير بالذكر أن في العهد العباسي انتشر فيها عدد من المدارس مثل مدرسة الرأي والمعتزلة والأشاعرة، إضافة إلى التعددية المذهبية الإسلامية، فالإمام كان قريباً من الجميع وبالأخص من “الشيعة الزيدية” فكان يعتبر بشهادة من عاصروه ومن تحدثوا عنه وتلامذته، أنه كان من أهل الحديث، وأهل الرأي والعقل، وكل مرة بحسب الكلام الذي يصدر عنه الأمر الذي يبين حجم وقوة المخزون العقائدي الديني والثقافي الذي كان يمتاز به، وهو القائل “والله إني مع الحق”، لهذا كان قريباً من الجميع، باختصار إن الإمام رجل أثري يبحث عن توثيق عمله بالأدلة، لا يهتم بالعصبيات المذهبية كما واقع الحال في أيامنا هذه.
ومن الجدير بالذكر أن “الشيعة الزيدية” هم أتباع الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، الذي استشهد في العراق والإمام الشافعي كان من الموالين لآل البيت عليهم السلام، كما كان أبو حنيفة النعمان.
منهج الإمام
اعتمد الإمام الشافعي رحمه الله في الطريق الذي سلكه، على مصادر التشريع الأساس، القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فقد اعتبر أن السنة مثل القرآن في التشريع، فما ثبت في السنة كالذي ثبت في القرآن، وما حرم في السنة كالذي حرم في القرآن، والسبب في ذلك أنهما جميعاً من الله تبارك وتعالى، وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي الحكمة التي قرنها الله مع كتابه في آيات كثيرة، كقوله تعالى في محكم كتابه العزيز: (لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين).
وقال رحمه الله: كل ما سن رسول الله صلى عليه وآله وسلم مما ليس فيه كتاب، وفيما كتبنا في كتابنا هذا “الرسالة” من ذكر ما منَّ الله به على العباد من تعلم الكتاب والحكمة دليل على أن الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم بين منزلة السنة من القرآن، وأنها شارحة له مبينة لمراد الله فيها، وأنها قد تستقل ببعض الأحكام؛ وإن لم يرد لها أصل في الكتاب، فقال: مع ما ذكرنا مما افترض الله على خلقه من طاعة رسوله، وبيَّن من موضعه الذي وضعه الله به من دينه الدليل على أن البيان في الفرائض المنصوصة في كتاب الله من أحد هذه الوجوه:
ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه فلم يُحتج مع التنزيل فيه إلى غيره، وعلى غاية البيان في فرضه، وافترض طاعة رسوله، فبين رسول الله عن الله: كيف فرضه، وعلى من فرضه، ومتى يزول بعضه، ويثبت ويجب، ما بينه عن سنة نبيه بلا نص كتاب، وكل شيء منها بيان في كتاب الله. فكل من قبل عن الله فرائضه في كتابه قبِل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سننه بفرض الله طاعة رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه، ومن قبل عن رسول الله فعن الله قبل؛ لما افترض الله من طاعته، ثم ذكر الأدلة على حجية السنة. ومما لا شك فيه أن هذا الأصل قد درِّس في المدارس النظامية، والتي كان من ضمن مناهجها كتب الإمام الشافعي.
العلم القيّم
بين الإمام الشافعي أنّ مصدر الأحكام الشرعية هو القرآن الكريم والسنة النبوية أو العلاقة ببعضهما، وبالإمكان ربط جميع أبواب الرسالة بمصطلح البيان. ثم ذكر الوجوه الخمسة النصية لبيان الأحكام الشرعية (ورد في القرآن، في السنة، في القرآن والسنة، ذُكر في القرآن ووضّحته السنة، لم يذكر في أيهما فيرجع فيها للاجتهاد)، وطرح الشافعي ثنائيات العام والخاص، والنص والمجمل ثم النسخ، حيث أنّ أوّل الأدوات التي ناقشها هي العام والخاص، وقال إنّ من وظائف العام والخاص رفع التناقض بين القرآن والسنة، فما يذكره القرآن عاماً؛ يُذكر بالسنة خاصاً، والأحكام الأخرى مثل ما ذكر في القرآن نصاً وكاملاً، بمعنى أنّه لا يحتاج بيان السنة، مثل صوم شهر رمضان. وما ذكر في القرآن والسنة.
علاقة الاجتهاد والقياس بالبيان
من أهداف الشافعي في البيان حصر باب استنباط الأحكام الشرعية ضمن قواعد البيان، وأيضاً بمفهومه للعلاقة بين الاجتهاد والقياس، وأنّهما بمعنىً واحد حاول أن يقيد الاجتهاد في القياس على النص، وذلك لإخراج الاستحسان من معنى الاجتهاد، ومن ثم إخراجه من البيان، استدل الشافعي على القياس بالاتجاه للقبلة، فهو ظنٌّ، ومع ذلك يجب على المسلم الاجتهاد في اتجاه القبلة، فهو اجتهاد مع الظن، والاجتهاد في معرفة الأحكام الشرعية يماثل هذا الاجتهاد في معرفة اتجاه القبلة، والإذن في الاجتهاد في تحديد اتجاه القبلة يدل صحّة الاجتهاد في معرفة الأحكام الشرعية. ويستدل الشافعي أن الله عز وجل لم يترك الناس سدى، فلم يجعل الناس بدون أحكام شرعية، وإذا لم يوجد نص في الكتاب والسنة؛ فنذهب إلى الاجتهاد ليتحقق معنى الآية.
يرى الشافعي أنّه لا يوجد تعارض صَعُبَ حلُّه بين النصوص الشرعية من خلال الأدوات الاستنباطية، استطاع أن يستدل على قواعده واستنباطاته، وأنّ الشريعة متماسكة في أحكامها، كل هذا في ضوء ما شرحه من مفهومه للبيان، مع أن الرسالة تقوم أساساً على مفهوم البيان، إلّا أنّ الرسالة يمكن اعتبارها الاستدلال على الحجية بالسنة، يشعر الشافعي بالقلق تجاه حجيّة السنة؛ ولذا أغلب مسائل الرسالة هي في العلاقة بين القرآن والسنة، أو أنّ السنة حجة شرعية مستقلة.
ربط الشافعي أصول الفقه بالفروع الفقهية من خلال كتابه (الرسالة)، في الجانب الآخر، اعتمد الإمام في رسالته على الاستقراء، أمّا الأصوليون فقد اعتمدوا على الاستنباط؛ كما لم يناقش الشافعي مسائل كلامية، إلّا ما له علاقة أصيلة بأصول الفقه، وبالذات حجية السنة، في مقابل كتب الأصوليين المليئة بالجدل الكلامي، وهو أول من أعمل الجانب اللغوي في اجتهادات الأصولية والكلامية، ونظر إلى القرآن والسنة بصفتهما نصاً، وأما وظيفة أصول الفقه فجاءت ربطاً مع النظام الفقهي ككل، مثل التعليم والقضاء.
بالتالي، إن أهمية مفهوم البيان عند الشافعي وتوضيحه باقتدار كان عملا ًناجحاً إلى حد كبير، لأنه تفسيرياً أكثر منه في العلاقة بين القرآن والسنة من خلال الأوجه الخمسة للبيان، وكتاب الرسالة، بل كتب الإمام الشافعي أجمع، كُتُب أدب، ولغة، وثقافة، قبل أن تكون كتب فقه وأصول، وهي مرجع الجميع اليوم، ينهلون منه، فهذه الأدوات الخالدة يحتاجها القانوني وباحث علم المقاصد الشرعية وباحث الشريعة الإسلامية وحتى الناقد للتراث الإسلامي، جميعهم عليهم تعلم هذه الأصول لأن ذلك هو السلاح الحقيقي، أما المجهود الرائع أن هذا الكتاب إلى الآن يُحقّق لما له من أهمية على عكس العابثين والمشككين الذين لا دور لهم إلا النقد السلبي، وهذا هو سر الإمام.
كما أن مقاصد الشريعة الإسلامية أخذت أيضاً من العلوم الأخرى، لكن الأساس كما أشرت هو من علم أصول الفقه، فأبواب علم أصول الفقه واسعة جداً، لم تترك أي أمر دون قاعدة شملته لتكون مرجعاً لأي عالم إسلامي يُعنى في هذا الشأن.
واقع الحال، أن جميع العلماء اعتنوا ببيان محاسن الشريعة الإسلامية، ومقاصدها من شرع الأحكام، من فكر الإمام الجويني والإمام الغزالي واللذين أفردنا لهما مقالات عديدة في علم المقاصد، فلا يمكن لعالم أن يحصل على درجة الاجتهاد إلا إن فهم مقاصد الشريعة الإسلامية، فالإمام الشافعي واضع علم أصول الفقه، ومبين قواعد الاستنباط، فلم يكن يستطيع ذلك لولا نظرته إلى مقاصد الشارع، حيث كان ينظر إلى كليات الشريعة ومصالحها العامة، قال تعالى في محكم كتابه العزيز: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)، وعليه تكون مقاصد الشريعة هي الغايات الكلية العامة التـي وضـعها المـشرع الحكيم لتحقيق مـصلحة العباد رحمة وعدلاً، وبالتالي إن مقاصد الشريعة جزء من أصول الفقه.
المقاصد عند الإمام الشافعي
كان الإمام الشافعي يقدم المقاصد عند النظر والاستنباط الذي وضع أصوله، ونبه على بعض القواعد والكليات، وكان ينظر إلى المقاصد على أنها نص، فلطالما ذكر الإمام الشافعي لفظة المقاصد نصاً وذكر قاعدة أصولية عامة في التعامل مع نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وفهمهما، وهذا يعني أن الإمام كان ينظر للأصول والأحكام نظرة أصولية مقاصدية، في هذا الخصوص، قال الإمام الجويني: “ذكر الشافعي في الرسالة ترتيباً حسناً، فقال: إذا وقعت واقعة فأحوج المجتهد إلى طلب الحكم فيها، فينظر أولاً في نصوص الكتاب، فإن وجد مسلكاً دالاً على الحكم فهو المراد، وإن أعوزه انحدر إلى نصوص الأخبار المتواترة، فإن وجده وإلا انحط إلى نصوص أخبار الآحاد، فإن عثر على مغزاه وإلا انعطف على ظواهر الكتاب… إلخ”، فالإمام الشافعي هنا كان ينظر إلى مقاصد الشريعة من كليات عامة ومصالح كلية عامة، ويوازن بينها وبين الجزئيات، فيقدم المصالح الكلية العامة على المصالح الجزئية الخاصة، فالشريعة بحسب الإمام الشافعي جاءت للإفهام وبلسان عربي ذكر ذلك أيضاً في كتاب الرسالة.
وكحال كل حقبة وجد الإمام الشافعي بمن يرد السنة الصحيحة لمخالفتها لأصولهم وبمن ينشر الآراء الفاسدة المبنية على الكيد للإسلام، وحيال ذلك كان مقصده وضع منهج تشريعي يقوم على الاجتهاد والاستنباط فيما فيه نص، وفيما لا نص فيه، فعمل على تثبيت الأصول الأولى “القرآن الكريم والسنة النبوية” لأنهما أساس الاجتهاد ومنطلقه، وهذا ما كان منه في عصر التأسيس “النبوة والوحي”، تالياً، عصر الصحابة، وما حفظوه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إذا أتى إلى القياس رسم حدوده وضبط مراتبه، وبيّن شروطه التي يجب توافرها في الفقيه ما يجعل منه قادراً على دحض أي مخالفة بالحجة والبرهان والدليل، والمثال على ذلك:
قال الإمام الشافعي: “ولو حاصرنا اهل مدينةٍ من أهل الكتاب، فعرضوا علينا أن يعطونا الجزية لم يكن لنا قتالهم إذا أعطوناها، وأن يجري عليهم حكمنا، وإن قالوا: نعطيكموها، ولا يجري علينا حكمكم، لن يلزمنا ان نقبلها منهم، لأن الله تعالى قال: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، فلم أسمع مخالفاً في أن الصغار أن يعلو حكم الإسلام على حكم الشرك، ويجري عليهم، ولنا أن نأخذ منهم متطوعين، وعلى النظر للإسلام وأهله، وإن لم يجر عليهم الحكم، كما يكون لنا ترك قتالهم”، فهنا رأى الإمام الشافعي أن تؤخذ الجزية من أهل الكتاب تطوعاً لمصلحة الإسلام وأهله، وعليه لم يجر عليهم حكم الإسلام، ويترك قتالهم، وهذا ليس عليه دليل من قرآن أو خاص من سنة ولكن نظر فيه إلى مصلحة المسلمين حتى يعدوا العدة، وبالتالي يعطي اهل الكتاب الجزية وهم صاغرون ومن ثم يجري عليهم حكم الإسلام.
وبالتالي، إن خوض مبحث المقاصد عن الإمام الشافعي واسع جداً، لكن نعرج على المقاصد العامة، مثل: حفظ الدین والنفس والعقل والنسل والمال.
أولاً، مقصد حفظ الدين: قال الإمام الشافعي: (على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح، والتشهد وغير ذلك، وما ازداد به العلم باللسان الذي جعل الله لسان من ختم به نبوته، وأنزل به آخر كتبه كان خيراً له، كما عليه ان يتعلم الصلاة والذكر فيها، ويأتي البيت وما أمر بإتيانه، ويتوجه لما وجّه له، ويكون تبعاً فيما افترض عليه وندب إليه لا متبوعاً”، فالإمام هنا أقر الحفاظ على اللسان العربي الذي نزل به القرآن الكريم للحفاظ عليه من التحريف والتبديل، والواجبات والمستحبات الأخرى من صلاة وتسبيح وتشهد وتلاوة، لتكون الأمة الإسلامية واحدة ودينها واحد ويكون الدين تابعاً لا متبوعاً فذلك من ضروريات الحفاظ على الدين.
ثانياً، مقصد حفظ النفس: قال الإمام الشافعي: “ولا خير في أن يعطيهم المسلمون شيئاً بحالٍ على أن يكفوا عنهم، لأن القتل للمسلمين شهادة، وأن الإسلام أعز من أن يعطي مشرك على أن يكف عن أهله، لأن أهله قاتلين ومقتولين، ظاهرون على الحق إلا في حال واحدة، وأخرى أكثر منها، وذلك أن يلتحم قوم من المسلمين فيخافون أن يصطملوا لكثرة العدو وقلتهم وخلة فيهم، فلا بأس أن يعطوا في تلك الحال شيئاً من أموالهم على أن يتخلصوا من المشركين، لأنه من معاني الضرورات، والضرورات يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها، أو يؤسر مسلم فلا يُخلى إلا بفدية، فلا بأس أن يُفدى، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدى رجلاً من أصحابه أسره العدو برجلين”، وقصد الإمام هنا أنه لا يجوز إعطاء المشركين شيئاً، ليكفوا عن قتالهم، لأن ذلك يخالف مقصد مشروعية الجهاد، فإنه وإن كان فيه قتل للمسلمين، إلا أن هذا القتل فيه مفسدة تقابل مصلحة أعظم منها، وهي عزة الإسلام وأحقيته، والشهادة للمسلمين، فمصلحة القتال للمسلمين أرجح من مفسدتها، وهي الكف عن القتال. ففي ذلك مقصد حفظ النفس وعزة المسلم، ومن محاسن الشريعة ومقاصدها ألا يكون أسيراً تحت شوكة الأعداء.
ثالثاً، مقصد حفظ العقل: قال الإمام الشافعي: “وإن كان مريضاً، فوجد مع رجل طعاماً أو شراباً يعلمه يضره، ويزيد في مرضه كان له تركه، وأكل الميتة، وشرب الماء الذي فيه الميتة، وقد قيل: إن من الضرورة وجهاً ثانياً، أن يمرض الرجل المرض يقول له أهل العلم به ، أو يكون هو من أهل العلم به: قلما يبرأ من كان به مثل هذا إلا أن يأكل كذا، أو يشرب كذا، أو يقال له: إن أعجل ما يبرك أكل كذا، أو شرب كذا، فيكون له أكل ذلك، وشريه ما لم يكن خمراً إذا بلغ ذلك منها أسكرته، أو شيئاً يذهب العقل من المحرمات، أو غيرها، فإن إذهاب العقل محرم، وليس له أن يشرب خمراً، لأنها تعطش وتجيع ولا لدواء، لأتها تذهب بالعقل، وذهاب العقل منع الفرائض، وتؤدي إلى إتيان المحارم، وكذلك ما أذهب العقل غيرها”.
وهنا نجد الفهم العميق للإمام الشافعي في شرحه للمقصد الشرعي وكلياته العامة، من خلال عدم أكل لحم الميتة وعدم التداوي بالمحرمات وهنا قدم الإمام العقل على مصلحة النفس لأن ترك الفرائض بسبب العقل من المحظورات لا من الضرورات.
رابعاً، مقصد حفظ النسل: قال الإمام الشافعي: “إذا كان الرجل ولي نفسه والمرأة أحببت لك واحد منهما النكاح إذا كان ممن تتوق نفسه إليه، لأن الله تعالى أمر به ورضيه وندب إليه وجعل فيه أسباب منافع، قال تعالى: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها)”، الإمام يقصد هنا أن الزواج شرّع من أجل أسباب ومنافع أهمها الابتعاد عن الفتنة وكذلك التناسل والحفاظ على الذرية.
خامساً، مقصد حفظ المال: قال الإمام الشافعي: “أصل المأكول والمشروب إذا لم يكن لمالك من الآدميين، أو أحله مالكه من الآدميين حلال، إلا ما حرم الله في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لزم في كتاب الله أن يُحرم، ويُحرم ما لم يختلف المسلمون في تحريمه، وكان في معنى كتاب أو سنّة أو إجماع، فإن قال قائل: فما الحجة في أن كل ما كان مباح الأصل يحرم بمالكه حتى يأذن فيه مالكه، فالحجة فيه أن الله تعالى قال: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)”، وفي ذلك قاعدة مقاصدية قررها الشافعي حول تحكم أموال الناس والمحافظة عليها وهي: ما كان مباح بالأصل يحرم حتى يأذن صاحبه، فالأموال المملوكة محرمة وممنوعة إلا بما فرض الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز، وبما فرض الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في سنته، فأي اعتداء على أموال الناس شرخ لهذه القاعدة المقاصدية التي جاءت الشريعة بالمحافظة عليها.
أخيراً، إن الإمام الشافعي رائد علم المقاصد بلا منازع، هذا العلم الذي خرج من رحم أصول الفقه، ولايزال مرتبطاً به ارتباطاً كبيراً، فالإمام قدم في علمه المصلحة الكلية العامة على المصلحة الجزئية الخاصة، معتبراً أن النظر في مقاصد الشريعة يضبط عملية الاجتهاد ويحافظ على مصالح العباد، من هنا يجب أن يكون الاهتمام أكبر بمقاصد الشريعة الإسلامية في جميع المرافق التعليمية، وللمهتمين بالاختصاص، دراسة هذا العلم لدى العلماء في هذا المضمار، والبداية تكون دراسة المقاصد من خلال القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، وبالطبع فإن كتاب الرسالة للإمام الشافعي غني بالقضايا المقاصدية سواء اللغوية أو الاستدلال الأصولي وما عرض فيه في سياق القياس والاجتهاد، وبناءً على كل ما سبق، فإن النتيجة الراسخة هي ان الإمام الشافعي هو أول من نبّه على منهج الفكر المقاصدي، بل إنه أول من وضع ضوابط لفهم مقاصد الشريعة، وكل ما كتبناه حول هذا الموضوع لا يعدو إلا لمحات خاطفة، لكن يكفيني فخراً أن يكون هذا البحثُ عن عالِم فذ ملأ الأرض علماً، وأسهم في تجلية بعض جوانب العبقرية والنبوغ لإمامٍ قد حقَّق في عمره القصير للفكر الأصولي ما حقَّقه أعظم الفلاسفة، فكان بحق فيلسوف الإسلام، ورائد التأليف المنهجي فيه.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.